LOGIN
المقالات
alshirazi.org
نتائج التخفيف من غلواء الشهوات
رمز 436
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 27 سبتمبر 2018
شبكة النبأ: ينشغل الإنسان المعاصر بالحقائق وكيفية اكتشافها بوساطة الأدوات العلمية، وما بلغتهُ البشرية من مستويات متطورة في التكنولوجيا وتطوير أساليب العيش وجعل العالم أكثر رفاهية، لا يمكن أن يتم من ون الاختراعات والاكتشافات بتدخل العلم، ولكن كل هذه النتائج الكبيرة والملموسة لكشف الحقائق علميا لا ينبغي أن تدفع بالعقل أو بالإنسان إلى التطرف وإلغاء الوسائط المهمة الأخرى لتطوير حياة الإنسان وجعل شخصيته أكثر قدرة على التوازن والتطور ومواكبة الإبداع البشري.

بمعنى أن العلم وحده لا يكفي، فهناك القطب الآخر الذي يوازيه العلم بأهميته وبالنتائج التي تحققت من خلاله للبشرية، ونقصد به الجانب الروحي، فالإنسان كما هو معروف يتكون من الروح والجسد، الروح والمادة، وكلاهما له أهمية متساوية في جعل حياة البشر مقبولة وجيدة، وفي حال الاهتمام بأحد القطبين على حساب الثاني فسوف يحدث خلل في بنية الإنسان، وسوف يتعرض لمشكلات كبيرة قد يصعب حلها، ولعلّ الأسلوب الضامن لحياة جيدة للكائن البشري هي الموازنة في الاهتمام بين القطبين الروحي والمادي.

ولابد أن يفهم الإنسان الحياة لا تستقيم بالعلم المادي وحده، ولا بالروح وحدها، وهذا يستدعي التوجّه لله تعال والانقطاع التام في هذا التوجه لغرض الحصول على سداد التوجيه، فعلم الإنسان وحده سيبقى قاصرا في بلوغ المرام إذا لم يكن هناك تسديد إلهي يساعد الإنسان ويرشده نحو البوّابات الصحيحة.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم الموسوم بـ(حلية الصالحين):

(إن الإنسان بحاجة إلى تسديد الله دوماً، فمهما بلغ الإنسان من المراتب العالية ـ سواء الدينية أو الدنيوية ـ فهو بحاجة إلى عون الله تعالى وتسديده).

وتبلغ أهمية الاعتناء بالجانب الروحي مبلغاً كبيرا حين يشعر الجميع بأنهم بحاجة إلى الله تعالى، حتى أولئك الناس الذين يتحلّون بملَكات العدل والإنصاف وكل القيم التي تقيهم إلحاق الأذى والظلم بالآخرين، هؤلاء أيضا يحتاجون إلى معونة الله تعالى، فما بالنا بالإنسان الذي يتندّر بالدعاء مثلا، ويرفض الدور الروحي في تطوير وتحسين شخصية الإنسان وحياته، إننا كبشر نحتاجُ جميعا إلى السداد الإلهي، ولا يمكن لمن يتشبث بقطب واحد من القطبين (المادة/ الروح)، أن يصل درجة السداد، لاسيما إذا عرفنا أن الإنسان العادل المنصف المؤمن والمحصّن من شهواته أيضا يحتاج إلى الحماية الإلهية من مرامي النفس.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذا الموضوع:

(حتى الذين توفّرت فيهم ملكة العدالة بأعلى درجاتها وأصدق معانيها، واجتنبوا كلَّ المحرّمات، وأتوا بكلّ الواجبات، وكان عندهم فوق ذلك كلّه ورع كامل، ليسوا بقادرين على النهوض والارتقاء من دون أن يعينهم الله تعالى على ذلك ويأخذ بأيديهم؛ لأنّ الشهوات المختلفة من شأنها أن تحول دون ذلك).

الامتحان الأصعب

حين نبحث عن الغاية التي تقف وراء خلق الكون والإنسان، فإننا لا يمكن أن نصطف إلى جانب العبثية أو العدمية التي تذهب إلى إلغاء الغاية المستهدَفة من خلق الكون والإنسان، بيد أن هناك من أنصار المادة، أولئك المتشبثون بالعلم وحده على أنه (قارب النجاة)، بالنسبة لهم وكشّاف الحقائق، هؤلاء تصل بهم أفكارهم إلى حد القطيعة مع الروحي، لهذا هم لا يؤمنون بالأديان ولا الصلاة ولا الدعاء ولا يقيمون وزنا لدور الصلاة في جعل الإنسان وحتى العقل أكثر قدرة على مجاراة المصاعب وترويضها وإيجاد الحلول المناسبة لها.

فهؤلاء الماديون لا يؤمنون أصلا بكل الطرائق الروحية التي تجعل روح الإنسان أكثر نقاءً والقلب ناصع البياض والرؤية في قمة الوضوح، بل قد ينكرون أن الروح تمرض أيضا وتحتاج إلى علاج كما يمرض الجسد أو أعضاؤه، وإذا مرضت الروح فقد الإنسان نصف قدراته، هنا لابد أن تكون هناك موازنة روحية مادية تنقذ روح الإنسان من اعتلالها، وبالتالي إنقاذ الإنسان نفسه من هذا الاختلال الخطير.

ولعلنا لا نغالي ولا نبالغ حين نقول أن كل ما يتعرض له عالمنا اليوم من تطرف وحروب وظلم وتفرقة وجشع، يعود إلى أن البشرية والنخبة التي تقودها أهملت أمراض الروح واهتمت فقط بأمراض الجسد، فحدث الاختلال الكبير الذي أصاب العقل الجمعي، وجعَلَ من المعمورة ساحة للصراعات بدلا من أن تكون رحبة واسعة للتعاون والتآزر والتكافل الذي يحفظ إنسانية الإنسان ويحميه من الجشع المادي القاتل بكل ألوانه وأشكاله.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إنّ الله سبحانه وتعالى أودع فينا الشهوات لكي يختبرنا ويَميز الخبيث من الطيّب. وإن استطاع الإنسان أن يخفف من غلواء بعض الشهوات بالترويض والتمرين فإنّ هذا وحده لا يكون كفيلاً بكبح بعضها الآخر الذي يمكن أن يثقله ويشدّه إلى الأرض).

الدعاء السطحي لا يخدم الإنسان

إن قدرة الشهوات على إخضاع الإنسان لشروطها المذِلّة، لا يمكن حصرها في حدود معينة، كما أن قدرة الإنسان على مواجهتها تبقى هشة وخلخلة ما لم تكون هناك مساعدة إلهية في هذا الجانب، فكيفما تكون حصانة الإنسان ووعيه وضبطه لأهوائه وصدّه لرغباته، تبقى هنالك ثغرات يمكن أن تتسلل منها النزوة لتطيح بحصانة الإنسان وتسحقه بقوة الشهوات.

هنا تبرز الحاجة القصوى للمعونة الإلهية للبشر، فمن دون المساعدة الربّانية للإنسان سوف يبقى جداره مهلهلا ضعيفا يمكن اختراقه بقوة الشهوة، فيسقط الإنسان حينئذ في براثن الخطيئة وحينها لن ينفع الندم، وحتى الوعي الثاقب قد يتعطل أمام الشهوات، لهذا يحتاج الإنسان إلى الله، وهناك وسيلة متاحة للجميع كي ينقذوا أنفسهم من هذا المطب العصيب، إنه الدعاء الذي يشكل منفذا للمساعدة الإلهية، فبالدعاء يحصل الإنسان على غايته، ويحمي نفسه من علل الروح ومواطِن الضعف في العقل وحتى القلب، ويُصبح محميّاً من الزلل أو الانحراف.

لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه (حلية الصالحين):

(مهما كان الإنسان ذكياً واعياً، لا يستطيع أن يصنع شيئاً مع ما عليه من ثقل الشهوات ـ وهو ثقل واقعي غالباً ما يحول دون الإنسان ورقيّه ـ ما لم يُعنْه الله تعالى ويأخذ بيده، وهذا بحاجة إلى الدعاء؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾.

ولكن ثمة شروط للدعاء أيضا، فلا يكفي أن يلفظه الإنسان أو يقرأه أو يرتله وينتهي كل شيء، كلا، هناك متطلبات محددة ينبغي أن تتوافر في الدعاء حتى يكون طريق الإنسان المضمون إلى الاستجابة الإلهية، فثمة طريقتان لتلاوة الدعاء، منها السطحية التي تكتفي بلفظ الكلمات فقط وهذه لا جدوى منها، أما الطريقة الثانية فهي التي تخص التلاوة العميقة والانقطاع التام لله، وهذا جيد لكنه أيضا لا يكفي، إذ ينبغي أن ترافق الدعاء حالة من الخشوع التام والخالص لله، حتى يضمن الداعي أو صاحب الدعاء الاستجابة لطلبه، ويصل إلى حالة التوازن والتوفيق.

يقول سماحة المرجع الشيرازي:

(قد يجري الإنسان ألفاظ الدعاء على لسانه فقط، فيكون دعاؤه سطحياً. وقد ينطلق الدعاء من أعماقه، وهذا أفضل، ولكنّه أيضاً لا يكفي، بل لا بدّ أن يكون إلى جانب الدعاء والخشوع سعي من قبل الإنسان نفسه لتحصيل ما يطلبه من الله).