LOGIN
المقالات
alshirazi.org
الحريّة من منظورٍ إسلامي
رمز 448
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 13 ديسمبر 2018
النبأ: هل يمكن لفرد عاقل أن يواصل مسيرة حياته وإنجازاته دون حرية (الفكر، واتخاذ القرار، والعمل)؟، هذا الأمر شبه محال، إلّا إذا تحوّل الكائن إلى عبد تتحكم به إرادة أخرى أقوى من إرادته، إذاً الحرية هي إمكانية الفرد دون أي جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة، ومفهوم الحرية يعين بشكل عام شرط الحكم الذاتي في معالجة موضوع ما، وتعني الحرية التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو معنوية، فهي تشمل التخلّص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما، والتخلص من الإجبار والفرض، عن طريق القوة بنوعيها المادي والمعنوي.

أما مفهوم الحرية لغوياً فهو التخلّص التام من الشَّوائب أَو الرقّ أَو اللُّؤْم، مصدر حرَّ، واصطلاحا، هي حالة يكون عليها الكائن الحيّ الذي لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة ويتصرّف طبقًا لإرادته وطبيعته خلاف العبودّية. ويعود أصل المفهوم الحديث للحرية السياسية للأفكار الإغريقية عن الحرية والعبودية، فحتى يكون المرء حراً، حسب الإغريق، كان يجب ألا يحكمه سيّد، وأن يعيش كما يريد، ويرتبط هذا المفهوم بشكل وثيق مع مفهوم الديمقراطية عند أرسطو، حيث يعتبر ذلك أحد سمات الحرية التي يؤكد جميع الديمقراطيين على كونها من مبادئ دولتهم، بالإضافة إلى أن المرء ينبغي له أن يعيش كما يشاء، أما العكس فيكون علامة على العبودية للبشر وليس للذات الإلهية.

ولذلك قيل عن الحرية أنها خُلِقَتْ مع الإنسان حين ولادته، وصارت فطرةً له لا يمكنه تجاهلها، فهي تفرض قوتها على الإنسان كونها نشأت معه ولازمته فطريا، ولا يمكن الحد من تأثيراتها الهائلة على الإنسان إلا في حال تنازل عنها بقناعة مقابل مصالح مادية أو غيرها، وهذا ما يحدث مع بعض النفعيين أو الانتهازيين أو المتملقين الذين يتنازلون عن حرياتهم مقابل منفعة أو مصلحة ما، متجاهلين أن الحرية هي هبة إلهية من الخطأ الجسيم التفريط بها أو التنازل عنها.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في الكتاب القيّم الموسوم (من عبق المرجعية):

(الحريّة نعمة إلهيّة عظمى ينبغي اغتنامها على أحسن وجه).

وحين أوقِدَت جذوة الرسالة النبوية، كانت الحرية رديفاً لها، وكان الهدف الأول لهذه الرسالة تحرير الإنسان من الأغلال التي تكبّل عقله ويديه، فتجعله تابعا لمن يسعى لاستعباده مع أنه خُلِق حرّ بالولادة، فالرسالة الإسلامية جاءت بنوعين من الحرية وركّزت عليهما كي تُشعِر الناس جميعا بقيمة الحرية.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول في المصدر نفسه:

(هناك حريّتان موجودتان في الإسلام، حريّة الفكر حيث يقول تعالى: (لا إكراه في الدين)، وحريّة العمل؛ للقاعدة المسلّمة لدى الفقهاء: الناس مسلّطون على أنفسهم).

حرية العقيدة والفكر

إن الجنْبة الأعظم التي ركّز عليها الإسلام هي حرّية الفكر والرأي، لاسيما أنها لا تناقض ما يميل أو يطمح إليه الإنسان بل تستقيم معه، كما أنها تمنح الإنسان سمات مضاعفة وتحرّك فيه طاقات كامنة، لا يمكن أن تظهر للعيان إذا لم يكن الإنسان حراً، وقد وصل الفكر الإسلامي إلى حدود الحرية في أقصاها حينما تُرِك الخيار للعقل البشري أن يختار ما يشاء، والدقة بلغت قمّتها حين خُيِّرَ البشر بين (الإيمان والكفر)!!.

فالحرية تعني انتفاء القيود والضغوط على الفكر وعلى التجسيد أيضا، وأنت كبشر يمكنك أن تختار الإيمان بالدين وتعاليمه وأفكاره، ويمكنك أيضا أن تختار الكفر وهو نقيض الفكر الديني، فأية حرية تفوق ذلك، يأتي هذا من دراسة معمّقة لتركيبة الإنسان الخلقية، لهذا تمّ التركيز على بقاء الإنسان حرا في خياراته ومعتقداته، لأن القسر والإجبار لا يجدي نفعاً، وهذا يدل على مستوى عالٍ من الحرية الفكرية.

كما أكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ذلك بقول سماحته:

(تتجسد الحريّة الفكرية في الإسلام من خلال الآيات الكريمة: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

وانطلاقا من هذا الفكر الحرّ في مبادئه وتعالمه، لم يكن هناك حدود في العلاقات الإنسانية التي كان يقيمها القائد الأعلى للمسلمين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وهو أسوة الجميع، فقد امتدت علاقاته (ص) الإنسانية إلى المسيحي واليهودي، وتم ترك هؤلاء أحراراً من حيث الإنزياح الفكري، فلا ضغط ولا إكراه لأحد أن يعتنق هذه المبادئ أو ذلك الفكر، ومع أن السلطة والقوة والمقدرة والنفوذ كانت عناصر متوافرة بيد الرسول صلى الله عليه وآله، لكنه لم يستخدم ذلك للقسر أو الضغط مطلقا، وهذا درس بليغ ليس للمسلمين وحدهم، إنما للبشرية كلها، ولقادة الفكر، والساسة من أحزاب وحركات ومنظمات على أن لا تسعى لتأييد الآخرين لهم بالضغط أو الابتزاز أو القوة كما تفعل الأنظمة المستبدة، وتتبعها في ذلك الأحزاب والحركات القائمة على القمع الفكري.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(كان لرسول الله صلى الله عليه وآله الصديق المسيحي والجار اليهودي، دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام، مع أنه كان الحاكم الأعلى في الجزيرة العربية، وكان بيده السيف والمال والقوة الكافية).

الحرية المسؤولة أمام الآخرين

بالطبع ضمان الحرية للناس لا يعني أنهم منفلتون بلا حدود، فالحرية في هكذا حالة ستصبح عبئا على الجميع، وستتحول إلى تبرير للتجاوز على حقوق الآخرين، إن الرسالة النبوية أكّدت حرية الناس، وسعتْ إلى تحريرهم من الأغلال الفكرية أو المادية، وهذا ما ينبغي أن يحدث في عالم اليوم، فما فائدة حرية الإنسان عندما تكون مبررا وطريقا أو أداة للتجاوز على حريات الآخرين؟، ومع ذلك فإن حرية الرأي والفكر في الدين الإسلامي مقدسة.

كما يصفها سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بالقول:

(حريّة الرأي في نظام الله وقانون الإسلام أكثر تقديساً حتى من الشهادتين، فالإسلام يريد أن يجعل الناس أحراراً).

ولكن ينبغي أن لا يُطلَق العنان للحرية إلا في الحدود التي تحترم الآخر وتضمن له حريته أيضا، على العكس مما يقوم به بعض المفكرين أو الحركات الفكرية والسياسية، حيث يدعون إلى قمع الآخرين المعارضين لهم ويطالبون بحرية الرأي والفكر لأنفسهم، فالصحيح إذا أردت أن تحصل على حريتك عليك أن لا تحرم الآخرين منها، فالكل أحرار في آرائهم وأفكارهم، ولا يجوز أن ينفرد فكر محدد بالحرية وإلغاء استحقاق الآخرين لها، لهذا أنت حرّ طالما تضمن حرية الآخرين.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(يقول لك الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حريّة العمل شرطية ألاّ تضر غيرك، فإنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).

إن بعض الليبراليين مصابون بمشكلة تحريم حرية الرأي والفكر على غيرهم، ومنحها لأنفسهم، وكأنّ الحرية من حقّهم فقط ولا يجوز للأفكار والمعتقدات الأخرى ذلك، هذا السلوك يمثل سياسة فكرية تكيل بأكثر من مكيال، فهي تسمح لنفسها ما تحرّمه على غيرها، لذلك قام بعض المستشرقين باتهام الفكر الإسلامي بأنه مليء بالمحرمات والنواهي والقيود، لكن حقيقة الأمر ليست كذلك قط، إنما هي حملة مسيئة ومغرضة يراد بها تضليل الشباب المسلم.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حول هذا الموضوع:

(هناك تهمة وجهّها بعض المستشرقين إلى الإسلام ويردّدها بعض الشباب الذين لا يعرفون الإسلام، فهم يقولون: إن الإسلام كلّه محرّمات وقيود ونواهٍ؛ ونحن نقول لهم: بالعكس تماماً، فإن الحرية الموجودة في الإسلام لا يوجد لها نظير في كل مكان!).