شبكة النبأ: المعروف أن المسلمين يشكلون نسبة لا يُستهان بها من سكان العالم، لذا فإنهم يحتاجون إلى مجسات سياسية وأخلاقية جيدة، يكتشفون من خلالها الخطوات الصائبة لتشكيل الحكومات المثالية، وقبل ذلك من الأهمية بمكان أن يتم تحديد صفات واشتراطات هذا النوع من الحكومات، فالتساؤل الذي يبدو مثيرا للاهتمام كيف يمكن الحصول على حكومة مثالية، وما هي الأسس التي ترتكز إليها، ومتى يمكن أن تستحق هذا التوصيف ذو المرتبة المتقدمة، وهل هناك مقاييس سياسية أخلاقية يمكن في ضوئها منح هذه الحكومة أو تلك سمة الاكتمال والمثالية؟
هناك صفات وشروط درجَ عليها المحكّمون، يمكن من خلالها توصيف الحكومة بالرشيدة، أو خلاف ذلك، ومن أهم ما ينظر إليه المحكمون في هذا الجانب قضية تحويل الشعار الحكومي إلى فعل يتم لمسه لمس اليد ويمكن رؤيته بالعين، يتناقله الناس فيما بينهم، يمنح حياتهم شريانا جديدا متدفقا بالسلام والمحبة والعمل المدعوم بالعدالة الاجتماعية التي تُنصف الجميع دون تمييز.
إن العلّة الأم التي تعاني منها معظم الحكومات في عالمنا الإسلامي أو العالم الأوسع، أنها تتكلم عن المثالية كثيرا وتقدم أدلة قليلة على هذه المثالية، فليس كل ما يُقال يصبح حقيقة واقعة، بل المعيار الأول للاثبات هو تحويل ما يعد به الحاكم وتتعهد به الحكومة للناس الى حقائق، فمثلا تتسلم اليوم حكومة جديدة إدارة مقاليد العراق، وهذه الحكومة وعدت بالكثير الذي يمكن أن يعيد مسار أمور هذا البلد إلى الصواب، ولكن هل نكتفي عند هذا الحد، كلا بالطبع لأن الميدان العملي هو صاحب القول الفصل في هذا الجانب.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يؤكد قائلا في الكتاب القيّم الموسوم (من عبق المرجعية): (إننا لا نسير خلف الأسماء والشعارات بل خلف الواقع).
فما تعد به الحكومة شيء وما يتم إنجازه شيء آخر، وللأسف غالبا ما تأتي وعود الحكومات قاصرة عن إثبات الوعود والتعهدات، ولكن لو كانت لدينا حكومة نموذجية على أسس ومقاسات الإسلام لأمكن تحويل تطلعات الأمة إلى أفعال منجزة، لأن المواصفات التي تم تحديدها للحكومة تسد أمامها أبواب الخلل والإهمال والفساد، فمثال ذلك أن الإسلام وضع المنهج الاستشاري كاشتراط أول وأساسي لبناء الحكومة وتفوق بذلك على أشكال الأنظمة الجمهورية أو الملكية الوراثية، ومتى ما كانت الحكومة استشارية والحاكم يرتقي إلى عرشه استشاريا سيكون النظام السياسي مثاليا في معادلة التطابق بين ما يُوعَد به من مشاريع وإصلاح من جهة، وبين ما يُنجَز منه من جهة ثانية.
لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أن:(الحكم في الإسلام لا جمهوري ولا ملكي، بالمعنى المصطلح لهما في قاموس عالم الغرب اليوم، بل استشاري، ويصحّ أن نطلق عليه هذا الاسم باعتبار الاستشارية اسم.. لـ (الجمهوري)، فإنه ليس الحكم في الإسلام ملكيا وراثياً).
حفظ العدل بين الناس
لو أننا تفحّصنا واقع حال الحكومات التي تدير شؤون المسلمين، ماذا يمكن أن نكتشف، وهل نتوقع أنها وصلت إلى المثالية أو حتى إلى أجزاء منها؟، إن واقع الحال ينبئ عن أحوال لا تسرّ، فالوعود التي يطلقها الحكام والمسؤولون كثيرة، خصوصا في عندما يحين موعد الانتخابات، فالمتسابقون إلى السلطة والصاعدون إلى قمتها يسترضون الناس بكل الطرق المتاحة، وقد اعتاد الناس حين يتسنّم مسؤول كبير في الحكومة منصبه أن يسمعوا وعودا كثيرا، ويبنوا أحلاما أكبر، لكن ما أن يصير المسؤول على المحك ويصل منصبه بأمان وضمان حتى تتبخر الكثير من تلك الوعود البراقة والتعهدات التي تفرضها الأخلاق الإسلامية والإنسانية.
إن العدل على سبيل المثال يعد الركيزة لنظام سياسي ناجح، والعدل هنا نقصد به ذلك الذي يمنح الفرص بالتساوي بين جميع الناس، وفي حال عدم تحقق ذلك، فإن النظام السياسي لن يكون مثاليا ولا نموذجيا وسوف يكون عرضة للاستهجان والنقد اللاذع، والأسباب واضحة كل الوضوح، إنه الفارق الكبير بين ما يقوله وما يعد به المسؤول وبين ما يتحقق من ذلك فعلياً.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (السبب فيما نراه في البلاد الإسلامية اليوم من نواقص، ومشاكل، يعود إلى أنها إسلامية بالاسم فقط، والشعار فحسب، وليس أكثر من ذلك).
ومما لا يمكن غض الطرف عنه أو إنكاره أن حفظ العدالة بين الجميع هو أساس القبول الجمعي، ومنه تبدأ رحلة الارتقاء إلى ما هو أفضل وأسمى، وجعل الحياة في حالة تقدم مستدام، من خلال توفير فرص العمل والتعليم والصحة وسوى ذلك من الخدمات الأساسية، على أن لا يكون التركيز على ربط معاشات الناس بالدولة وجعلهم عبيدا لها، إنما يجب أن تتم معالجة فرص العمل عن طريق تنشيط القطاع الخاص فهو يكفل فرصا عادلة ويقلل الفساد ويدفع بالحياة قُدُما.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله: (وظيفة الحكومة الإسلامية تجاه الأمة هي حفظ العدل بين الناس، داخلاً وخارجاً، والدفاع بالحياة إلى الأمام، وتوفير الفيء، من الرزق والمال عليهم، وتعليمهم وتثقيفهم، وحفظ أمنهم واستقرارهم).
ثلاثة أقطاب كفيلة بصنع السعادة
إن الحاكم ليس ملاكا، إنه إنسان، ولكنه وفق شروط معينة، إذا اكتملت في شخصه اكتمل في إدارته للشؤون السياسية وغيرها، فالناس رغم بساطتها وتفاوت مستويات الوعي فيما بينهم، إلا أنهم يعرفون العلامات الصحيحة التي يمكن من خلالها منح هذا الحاكم أو ذاك درجة القبول والامتنان، بالطبع ليس الكلام المعسول وحده يكسب رضا الناس، لأن الزمن والواقع كفيلان بكشف حقيقة الكلام والوعود، ومعرفة هل هذا المسؤول نموذجي في حكومة مثالية أم العكس.
فإذا لم تتوافر الشروط الصحيحة في الحاكم سوف يُزال من خارطة السياسية الحاضرة والمستقبلية، لذلك كان الإسلام ولا يزال سباقا في منح الناخب حرية تغيير حكّامه في ضوء المواصفات التي يتحلّون بها، وخصوصا العدالة وحفظها بين الناس جميعا، وهذا هو الحق الأسمى الذي يجعل الناس مصدر السلطة وشرعيتها الممنوحة لهذا الحاكم أو ذاك.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (متى ما توفّرت في الإنسان الشروط – الصحيحة- , ورضي به أكثر الناس صار حاكماً، وإذا فقد إحدى هذه الشروط عزل عن منصبه فوراً، ولكن إذا لم ترض الأمة ببقائه رئيساً حقّ لهم تبديله إلى غيره ممن جمع الشرائط).
نستنتج مما تقدم، أن الحاكم الجيد، والحكومة المثالية، ينبغي أن يفهموا الأرض التي يتحركون فوقها جيدا، وعليهم أن يتسلحوا بمبدأ النجاح الحكومي الأساس وهو التطابق بين الوعود وتحقيقها، لأن إطلاق التعهدات جزافا أشبه بالعسل المزيّف تنظر إلى شكله فيسيل له اللعاب، وحين تلعقه بلسانك تكتشف بأنه عسلا مغشوشا، فالوعد الكاذب سرعان ما يتم كشفه ويُطاح بقائله، لذلك على ساستنا أن يفهموا جيدا بأن سعادة الناس (دنيا وآخرة) قائمة على مثلث واضح المعالم، (الاقتصاد سليم/ السياسة العادلة/ الفضيلة). فهي الكفيلة بصنع الحاكم الناجح والحكومة المثالية.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (سعادة الدنيا والآخرة رهينة مثلث، يشكّل طرفاه الاقتصاد السليم، والسياسة العادلة، والطرف الثالث الفضيلة.