شبكة النبأ: لعلنا لا نخطئ اذا قلنا أن رحلة الانسان في الحياة الدنيا عبارة عن صراع بينه وبين نفسه، وستبقى النتيجة محكومة بقدرة الانسان في التفوق على نفسه والسيطرة عليها، وعدم حدوث العكس، لأن تفوق النفس على الانسان سيقوده الى نهاية لا تُحمَد عقباها، ولكن على الأغلب يطمح الانسان نحو الافضل، وهناك من يحدد الأفضلية في الجانب المادي والثراء والاموال والسلطة وما شابه، في حين هناك من يجد الفوز في الجانب الروحي او المعنوي، وهؤلاء هم الزاهدون، الذين لا يقبلون على الدنيا، وينظرون الى النتائج الأبعد والأرقى والاكثر عمقا ووضوحا وقربا من سجايا الانسان وطبيعته.
ولأن الانسان يبحث عن الافضل، توافقا مع الطبيعة البشرية التي تبحث عن الأفضلية دائما، فإن العلماء والمصلحون والمفكرون ينصحون الانسان بتحسين حياته، من خلال التغيير نحو الافضل، عبر انتهاج سبل وطرائق نفسية وعملية تساعد الانسان على أن يكون ناجحا ومقبولا لدى الجميع، بسبب احترامه لحقوق الآخرين وقبوله بالمكاسب التي تتحقق له، وعدم حزنه على الخسائر والتضحيات التي قد يتعرض لها، فالحياة كما يقول العارفون أخذ وعطاء، ولا يمكن أن تسير بوتيرة واحدة، لذا على الانسان أن يكون مهيّئا نفسيا لقبول الربح والخسارة في الوقت نفسه، على أن يبقى هاجس التغيير نحو الافضل موجودا في ذاته، خصوصا في شهر رمضان المبارك، وفقا للمعايير والضوابط الانسانية المستمدة من الدين والعرف السائد بين الجميع، لذلك يتطلب هذا الامر ترويضا للنفس، ومقدرة كبيرة للسيطرة عليها وتوجيهها نحو الطريق الصحيح وليس العكس.
وهذا الهدف يستدعي عوامل وركائز عديدة ينبغي ان يستند اليها الانسان منها الزهد مثلا، وعدم الانجرار وراء ميول النفس، فهي غالبا ما تدفع صاحبها الى ما يريحها وفقا للغرائز البشرية المعروفة، لذا لابد أن ينتهج الانسان لتحقيق التفوق على النفس، أن يعتمد الزهد وعدم الفرح بالمكاسب أو الحزن على الخسائر، وما الى ذلك من معايير تنحو الى اليسر والبساطة، لأن الحياة يمكن تسميتها برحلة الخسائر والارباح، والخاسر هو من تهزمه نفسه، والرابح هو الانسان الذي يهزم نفسه بالصبر والزهد ووسائل تحجيم النفس والتحكم بها.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في احدى كلماته القيمة: إن (الزهد هو أن لا تأسى ولا تحزن على ما فاتك من ثروات وقدرات مهما كان نوعها، ولا تفرح بما أوتيت مثل ذلك).
لذلك ينبغي أن يفهم الانسان أن الفرصة الحقيقية تكمن في عدم الحزن على ما فاتنا من ارباح وفرص مادية، وانما تكمن في النجاح المعنوي والتغيير هنا ليس معنيا بطبائع الانسان المتجذرة في ذاته، لأنها ليست قابلة للتبدّل، ولكن هناك درجات يمكن التحكم بها ذاتيا، من خلال إرادة الانسان نفسها، وغالبا ما ينجح صاحب المقدرة على الزهد، فهذا النوع من الناس اقوى من غيره في ترويض النفس ومقارعة رغباتها وأهوائها.
ترويض الغرائز
ثمة سبل كثيرة توجد امام الانسان، وغالبا ما تكون متاحة له، شريطة ان يتعامل معها بصورة صحيحة، وهي مرتبطة في الغالب بين المنافع والاضرار التي قد تلحق به، وهذا مرتبط بدوره بطريقة تعامل الانسان مع ما يدور حوله، وبين السيطرة على نفسه، وهكذا فإن قضية التغيير تتعلق بالذات أولا واستعداد الانسان للنجاح والعمل الدؤوب من اجل تحقيق الهدف المطلوب، ولكن ينبغي أن يتم ذلك بالطرائق الانسانية المتفق عليها، أي من دون الاضرار بحقوق ومصالح الآخرين، خاصة اذا عرفنا أن النجاحات والخسائر لا تتعلق بذات الانسان وحده ولا ينبغي له أن يفرح او يحزن كثيرا بهذا الخصوص، علما أن الاستعداد لتغيير الذات من حال الى حال يختلف من شخص الى آخر.
كما يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (كلما استحضر الإنسان المنافع التي سيجنيها والمضارّ التي سيدفعها من التغيير، زاد من سرعة تغيّره. وكما تختلف النفوس، فكذلك تختلف الغرائز والطباع في قوّتها وضعفها).
اذن هناك علاقة بين نجاح الانسان وبين المنافع التي من المتوقَّع أن يحصل عليها نتيجة لترويضه بنجاح لنفسه، حتى لا تذهب باتجاه التجاوز على حقوق الناس، اذ يرى العلماء المختصون أن التركيبة النفسية للانسان تتجذر فيها بعض الطبائع التي تنطوي على الحاق الضرر بحقوق الآخرين من اجل تحقيق المصالح الذاتية، هنا لابد للانسان أن يعتمد المعايير الصحيحة لتقويض مآرب النفس، متمثلة بالتعاليم الدينية والاعراف الايجابية المتفق عليها، إن حب السلطة والجاه من الطبائع المتأصلة في ذات الانسان، ولكن هذا لايعني عدم القدرة على احداث التغيير المطلوب نحو الافضل.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (إنّ حب الجاه من الطبائع الأصيلة والقويّة عند الإنسان. وكذلك قد تختلف الأجواء والظروف وعوامل الوراثة والبيئة والتربية وغيرها. إلاّ أنّ الأمر المسلّم أنّ أصل التغيير ممكن).
عقبة تفضيل النفس
الانانية وتفضيل النفس طبيعة متَّفَق عليها، موجودة في تركيبة الانسان، ويرى المعنيون أن أساس الاخطاء التي يرتكبها الانسان تجاه الآخرين، هو حبه لنفسه، وعدم سيطرته عليها، وبحثه وسعيه الدؤوب لتحقيق النجاحات، حتى لو تمّتْ باسلوب التجاوز على الآخرين، لذا لابد أن يتجاوز الانسان عقبة الذات او حب النفس، وعليه أن يتعلم ويؤمن بأن كل ما يملكه هو أمانة في عنقه.
هنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي عن بلوغ هذا الهدف قائلا: (كيف يستطيع الإنسان أن يكيّف نفسه لكيلا تأسى على ما فاتها ولا تفرح بما أوتيت؟ للإجابة أقول: هناك طريق واحد، حيث كلّ الطرق ترجع إليه، وهو أن يتذكّر الإنسان دائماً أنّ كلّ شيء أمانة في رقبته). ويضيف سماحته ايضا: (إذا استطاع الإنسان أن يركّز على هذا الأمر فستخفّ الوطأة عنده شيئاً فشيئاً حتى يبلغ مرتبة يصدق عليه أنّه لا ييأس على ما فاته ولا يفرح بما أتاه).
من هنا يتطلب بلوغ هذه المرتبة نوعا من تربية الذات وتغييرها، وهو أمر يتحقق بالتربية السلوكية والنفسية للانسان. لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (تارة يتألم الإنسان بدنيّاً بسبب مرض ألمّ به، وتارة يتألم نفسياً نتيجة الشعور بفقدان الصحة، وهذا أيضاً شيء طبيعي، ولكن التركيز على الألم النفسي والتحسّر وما أشبه هي الأمور التي تنهض التربية بإزالتها).
لذلك لابد أن يكون الانسان مستعدا لكل النتائج، وعليه أن يعوّد نفسه على الصبر والقبول بكل ما يمكن ان يتعرض له في الحياة، وان يكون سلاحه الزهد وعدم الحزن على ما يمضي، ولا الوقوع في فخ الافراح الكاذبة، عندما يحقق بعض النجاحات، فالمطلوب دائما، هو كبح رغائب النفس، والكف عن الفرح بتحقيق نجاحات قد يكون مصدرها مصائب الآخرين، والكف عن الحزن الذي ربما يجعل حياة الانسان أكثر توازنا وبساطة بل وسعادة، لذا على الانسان أن يتحلى بإيمان قاطع بأن الامور كلها تعود الى الله تعالى، وعليه أن يروض نفسه في هذا الاطار الواضح.
إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: إن (المطلوب من كلّ إنسان أن لا يفرح أو يأسى على شيء ما يحبه ويهواه، وعليه أن يتذكّر دائماً أنّ كلّ النعم التي عنده هي من الله عزّ وجلّ، فإن تجدّدت فهي نعمة أخرى ينبغي الشكر عليها، وإن زالت فهذا شأن الدنيا ونعيمها)، وفي جميع الاحوال ينبغي على الانسان المؤمن أن يروض نفسه، ويضعها في المسار الصحيح دائما، وأن لا يحدث العكس فيكون أسيرا لرغباتها.