شبكة النبأ: الصوم له مراتب ودرجات، بحسب من يؤدي هذه الفريضة الأساسية، وأعلى مراتب الصوم، حين يقرن الصائم كفّهُ عن الطعام والشراب، بصوم جوارحه عن اقتراف الذنب، والأعلى درجة من ذلك حين تصوم الجوارح عن التفكير بالذنوب بشكلٍ مطلق.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يصف هذا النوع من الصيام بأنه أعلى مراتب الصوم، حيث يكفُّ فيه الصائم عن الطعام والشراب، بالتزامن مع كفّ الجوارح عن ارتكاب الذنب بل عدم التفكير به بتاتاً.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في كتاب (من عبق المرجعية):
(هناك فريق من الناس يصومون عن المفطرات العامة، وتصوم جوارحهم عن ارتكاب الذنوب، كما تصوم جوارحهم عن التفكير فيها، وهذا صوم خاص الخاص، وهو أعلى مراتب الصوم وأقسامه).
على نحو عام يحتاج فعل الصوم إلى دعائم، في المقدمة منها الإرادة والثبات في قضية الامتناع عن تناول الطعام والشراب في ساعات معروفة من اليوم، حددتها الأحكام زمنيا بشكل دقيق، من بداية النهار حتى نهايته، ولكن لا يكفي أن يمتنع الصائم عن الطعام والشراب، لأن هذا النوع من الامتناع ما هو إلا اشتراط واحد تلحق به اشتراطات أخرى، منها الكف عن مراودة الشرور، وأكبرها عدم التفكير طلقاً بالمحرّمات وإلغاءَها كليّا من التفكير وحتى الذاكرة.
لماذا الإصرار على هذا النوع من الصيام، ولماذا لا تكتفي الأحكام بالامتناع عن الطعام والشراب وتبيح ما سواهما من أفعال ورغائب وشهوات؟، نحن بحاجة لمعرفة الهدف الأدق من الصوم، إنه ليس اختبار لمدى استطاعة الإنسان لعدم تناول الأكل والماء، أو مدى قدرة تحمل الجسم لذلك، كلا إن الصوم هو حالة سمو روحي ومادي في وقتٍ واحد، حيث يتعاضد الجسد مع الروح لخلق شخصية أخرى للإنسان، هي الأقرب للطهر والنقاء والنظافة بكل درجاتها وأشكالها.
الصوم يكشف القدرات الكبيرة للإنسان
الصوم هو بوابة اكتشاف الإنسان لقدراته المختلفة، ولعل أهم تلك القدرات الهائلة التي أودعها الله في المخلوق البشري، هي قدرته على تغيير نفسه وأوضاعه والتأثير على المقربين منه ذويه وغيرهم، كي يتغيروا أيضا، وينتقلوا من حياة البلادة والجهل والضمور، إلى ما هو لائق بالكائن الإنساني، الكائن الذي خلقه الله ليقود الكائنات الأخرى قاطبة، ويقود نفسه إلى السؤدد.
كيف يتم ذلك، هل يستطيع الإنسان الضعيف أو المسلوب الإرادة أن يقود أو يصنع التغيير الذاتي أو الجمعي؟، بالطبع هذا محال، لذا الصيام هو من يمنح الإنسان قدرات إضافية عظيمة على الثبات والصبر، ومنح الإرادة أعلى درجات التصميم والقوة، لاسيما أن أشد العقبات والحواجز والموانع يتم رفعها في هذا الشهر الكريم، ألا وهم الشياطين الذين يتم تحييدهم تماما وشل قدراتهم بعد غلّهم إلهيّاً.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول عن هذه النقطة:
(في شهر رمضان تُغلّ الشياطين، بيْدَ أنَّ عملَ بني آدم قد يفتح الغلّ من الشيطان فيتسلّط عليه من جديد، فلنكن حذرين يقظين منتبهين جدا!).
بالطبع نحن جميعا نعيش اليوم في عالم مادي صاخب، تحيط بنا الملذات والمغريات من كل حدب وصوب، والعولمة أساسا تم تصميمها لخرق الخصوصيات، وكشف العالم وتعريته، فكان الخيار أمامك، أما العزلة عن العالم (وهي عزلة ظالمة وخيار قاتل)، أو الدخول في مدار العولمة والإعلام المكشوف، ومواقع التواصل الاجتماعي التي هشّمتْ الأقفال وأبوابها، وجعلت الجميع أمام بعضهم وجهاً لوجه، لذلك في هكذا ظروف ضاغطة، نحن في أشد الحاجة إلى الصوم، لماذا؟
إننا بحاجة لشخصية ثابتة الجنان، تتطهّر بالصوم الكلّي وليس الجزئي، الصوم الذي وصفه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، بأنه (صوم خاص الخاص)، أو أعلى مراتب الصوم، حيث تنعدم قدرة الإنسان على التفكير بالذنوب وليس فقط الامتناع عنها، هذا النوع من البناء الروحي والمعنوي والمادي، هو ما يجعل الإنسان أكثر صلاحا وتقوىً وقدرة على التغيير.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(مهما كان الإنسان بعيداً عن الخير والصلاح والتقوى، يمكنه أن يستفيد من أجواء شهر رمضان المبارك لتغيير نفسه).
المسعى الجمعي المنظّم بوابة التغيير
مع أن الله منح الكائن البشري تركيبة تكوينية تتميز بإمكانيات فكرية (التفكير)، ومادية (الاستخدام العضلي للجسد)، إلا أن الاستفادة من الوضع التكويني للإنسان يحتاج إلى دعائم تجعله قادرا على استثمار قدراته التكوينية أنجع الاستثمار وأفضله، الصوم المزدوج، المادي والروحي، هو أعظم الدعائم التي تعطي للإنسان زخماً هائلا باتجاه التغيير، وتطوير حياته، وجعلها أكثر توازنا وتعاونا وإنتاجا متميزا، على الصعيدين المادي والروحاني أيضا.
سماحة المرجع الشيرازي يقول في المصدر نفسه:
(إن الله تعالى أودع في الإنسان القدرة على التغيير، وشهر رمضان فرصة مناسبة جدّاً لهذا الأمر).
وقبل هذا وذاك، نحن كعراقيين ومسلمين على نحو أشمل، هل نحتاج إلى التغيير، وهل مطلوب منا أن نواكب حركة العالم اليوم، وهل علينا التفكير جديا كمسلمين العودة إلى تصدّر الأمم التي قدناها إلى مشارف الضوء، بعد أن أوغلت في دهاليز الظلام في القرون الوسطى؟، بالطبع هذا يجب أن يكون من أهم أولوياتنا وأهدافنا، ويمكن أن يتم ذلك في أسلوبين:
الأول: مسعى فردي يقوم به الإنسان في ذاته، باحثا عن التطوير وأساليب التغيير، وإثراء كل الممكنات التي يتوافر عليها في شخصيته ومواهبه.
الثاني: هو المسعى الجمعي المنظَّم الذي يأتي كحصيلة للمساعي الفردية، لنصبح أمة تمتلك طرائق التغيير والأساليب المحدثة لإنجاز ذلك.
على أن لا ننسى بأن الصوم (الصحيح) واستثماره (فردياً وجمعياً)، لإنجاز التغيير، هو ما يجب أن نبحث فيه، ونوظفه التوظيف الذي يدفع بنا في دروب الخلق الناجع، والتفكير الناجز، وإن جاء ذلك على نحو تدريجي، أي أننا يجب أن لا نحرق المراحل، ولا ندخل تحت عباءة العشوائية كي نصل إلى القمة التي نرسم لها.
نحن نؤمن بالتدرج، أو هكذا هو منهجنا، لا نبحث عن الصعود الفوري، ولا نريد التغيير الصادم، فمن يعلو سريعا يسقط سريعا، وشهر رمضان هو فرصتنا للتدرج في التغيير، خطوة إثر أخرى، الفرد والجماعة، يمكنهما جعل شهر رمضان وصومه بوابة أولى للتغير، ولا نعني التغيير الارتجالي، ولا المتعجّل، وإن تمكن الفرد من تغيير نفسه في شهر رمضان بطريقة التدرّج، فهذا هو عين المطلوب.
لنستثمر شهر رمضان، ولنضع في حساباتنا، أن للصوم درجات، وأننا يمكن نبدأ بأقل درجاته لنصل إلى أعلى مراتبه، فالمهم بالنسبة لنا، أن نستفيد أشد الفائدة من هذا الشهر، كي نبني أنفسنا أفراداً وأمةً، ولعل هذا الشهر الكريم هو الفرصة الأعظم كي نصل إلى ما نأمل وما نريد.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(من الممكن أن يغيّر الإنسان نفسه ولو خطوة خطوة، وشهر رمضان مناسبة جدّاً للتغيير).
وفي كل الأحوال، ها أننا نبدأ في هذه الأيام، شهر الصوم، شهر الله، شهر رمضان المبارك، وهو فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في السنة، فما علينا سوى النظر إليها على أنها أثمن الفرص القادرة على زجّنا في دوامة التغيير، والتطور التي يعيش العالم اليوم في أوجَها وذروتها.