شبكة النبأ: الزمن بطبيعته ثابت في مسيره إلى الأمام، نبضاته الثواني التي لا تتوقف، والساعات التي تصنع اليوم بنهاره وليله، وبتوالي الأيام تتكون الشهور التي تصنع السنوات، وهذه بدورها تدور في ديمومة أبدية، فلا يتوقف الزمن، يدور ويمضي باستمرارية لا تتغير، ولكن الإنسان يمكنه أن يعكس سلوكه وتفكيره على الزمن فيجعله متغيرا، مثال ذلك حين يتحول الإنسان من الصراع واللهاث المادي إلى الروحانية والهدوء والإيمان والثقة في شهر رمضان.
الشهور الأخرى للسنة تكاد تكون متشابهة رتيبة، تدور أيامها ليلا ونهارا برتابة، لكن في شهر رمضان يختلف مدار الأيام، تصبح مختلفة تضج بالسكينة والسلام الروحي، لذلك يتغير الناس في هذا الشهر، ويصبحون أكثر تعاونا وتراحما، واقترابا من بعضهم البعض، حيث تشير إحصائيات رسمية في جميع الدول الإسلامية إلى انخفاض نسبة الجرائم بشكل ملحوظ، ويسعى الإنسان في هذا الشهر الكريم أن يكون أكثر تنظيما لحياته، وتزداد مراقبته لنفسه، يراجع أقواله وأفعاله، يرصد المسيء منها ويعدّل سلوكه وتفكيره بما ينسجم وأجواء هذا الشهر الكريم.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب من (عبق المرجعية):
(إنّ شهر رمضان هو شهر الله سبحانه وتعالى، اختصّ به دون باقي الشهور، فهو شهر لتنظيم حياة الإنسان، والتغيير نحو الأفضل، والتطهّر من كل دنس، والطاعة لله سبحانه).
الخاصيّة المهمة هي أن يراجع المرء نفسه، يحاسبها، يصحح من أخطائها، يستعيد نشاطه في القول والعمل من أول لحظة نهوضه صباحا، وخروجه من الدار ضاربا في الأرض، ساعيا إلى رزقه أو عمله،حتى آخر النهار، حين يسكن إلى النوم، فعليه أن يستعيد نشاطاته المختلفة في ساعات النهار، وعليه أن يرصد المكروه منها، قولا أو فعلا، ويصححها.
ويحرص على أن لا يقع فيها مرة أخرى، وهكذا يمكِنه تنظيم حياته على هذا الأساس، فمن يستثمر شهر رمضان في مراجعة نفسه، سوف يتعلّم التنظيم المثالي للزمن، ويمكنه أن يتخلص من التكرار النمطي للزمن، وينبذ الاجترار اليومي لمدار الليل أو النهار، فيتنوع يومه، وتختلف ساعاته عن بعضها، فلا يتشابه يوماه، ولا يكون مغبوناً كما في كلمة عبقرية للإمام علي عليه السلام: (من تساوى يوماه فهو مغبون)، فيكسب هنا هدفين، الأول اختلاف الزمن، والثاني التنظيم والتغيير الأحسن.
كيف نستكشف مزايا شهر الله؟
شهر رمضان فرصة كي يعرف الإنسان نفسه ويستكشفها جيدا، وسوف يؤشر أخطاءه مع الآخرين، داخل البيت (الزوجة والأبناء)، وخارجه سواء في العمل أو المدرسة أو الساحات العامة، تساعده الأجواء الهادئة على إنصاف الآخرين في أقواله وأعماله، وينظّم حياته على أساس حفظ حدود وحقوق الناس، وعائلته وحتى نفسه، كل هذا حين يعتاد أو يتعلم تنظيم حياته ومن بين ذلك حماية وقته من الهدر، وتنظيمه بحيث يخصص ساعات أو أوقات منتظمة لمراجعة النفس.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ليخصّص المرء كل يوم من شهر رمضان بعض وقته ويخلو فيه، ليراجع ما قد مضى منه خلال الساعات الماضية، فينظر ما عمل وما قال وما سمع وما رأى وما أخذ وما أعطى، وكيف تصرّف مع زوجته وأصدقائه وزملائه؟ وباختصار.. ليدقّق مع نفسه فيم صرف وقته؟ وليصمّم بعد ذلك على أن يزيد من حسناته ويقلّل من سيئاته).
المعروف أن النادر المختلف يكون متميزا عن سواه، وهذا ما ينطبق كليّا على شهر رمضان، فهو مختلف في كل شيء نحو الأفضل، وهذا الاختلاف المائز يجب أن يتم استثماره من قبل الناس بأقصى ما يمكن من الاستفادة، ومن أهم الأمور والأهداف، أن يتعلم الإنسان تنظيم حياته ويستفيد من الصيام على تعليم نفسه على التنظيم، فهناك ساعات معروف للامتناع عن تناول الطعام والماء ومختلف العصائر.
هذا النوع من التنظيم الذي يجبر الإنسان نفسه عليه، يمكن أن يكون قوة هائلة تضع قدراتها تحت تصرّف الإنسان الذي يجب أن يوظفها لصالح نفسه، وأفضل التوظيف هنا هو التنظيم في كل أشكاله ومناحيه، تنظيم السلوك، الفكر، العمل، القول، النوم، الكف عن الطعام في ساعات معروفة ومحددة وتناول الطعام بشكل منتظم، هذه الآلية الرمضانية الدقيقة في تنظيمها، يمكن أن تنعكس على حياة الإنسان وتجعله منظّما منضبطا، قادرا على قيادة نفسه وليس العكس.
القرآن سعادة الدنيا والآخرة
لو أن الإنسان تمكن من إقناع نفسه، بأن شهر رمضان، هو شهر الله المختلف عن كل شهور السنة، وأنه شهر يتميز بأجواء ربانية كبيرة وكثيرة لا يمكن العثور عليها في أشكال وشهور الزمن الأخرى، فإنه في هذه الحالة سوف يكون أحد ضيوف شهر رمضان الناجحين، المستفيدين، المتعلمين، وأهم ما يمكن أن يتعلمه الإنسان في تجربته بهذا الشهر، هو عملية تنظيم حياته ووقته بما يجعله كائنا متميزا منظّما، لا يضيع وقته، ولا تتحول حياته بتفاصيلها غير المنظمة، إلى نوع من العدمية، أو الشعور باللاجدوى، حيث يصبح الإنسان في هذا الشهر الكريم ممتلئا بتصالح مع الذات، مستشعرا الهدوء والاطمئنان والشعور الراسخ بالثقة بالحاضر والمستقبل أيضا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول بالمصدر المذكور في أعلاه:
(ينبغي لعامة المؤمنين والمؤمنات في كل مكان من أرجاء الأرض أن يهيّئوا أنفسهم للاستفادة الكاملة من الضيافة - الرمضانية- الربّانية العظيمة والشاملة).
وما يتحلى فيه هذا الشهر الكريم، يمكنه أن يفتح أبواب ونوافذ لا تحصى أمام الإنسان، لتجعله قادرا على تعميق فكره وتبصّره في حياته، وفيما يدور حوله، أمام الإنسان كتاب الله، والكنوز العظمى التي يقدمّها للقارئ، فمن يتدبّر القرآن ويتبصّر به، سوف يستفيد استفادة لا تقدّر بثمن، حيث يستطيع التطور روحيا والاستقرار نفسيا، والحصول على ثمار لا أغنى منها ولا ألذّ، إنها سعادة الدنيا والآخرة التي يمنحها كتاب الله لمن يقرأه ويتدبّره.
والمواظبة على قراءة القرآن الكريم هي أيضا من ضمن الطقوس الرمضانية الأهم، والتي تساعد بقوة هائلة على تنظيم حياة ووقت الإنسان، وتجعله منظّماً في تفكيره، عميقا في استبصاره، متميزا بعمقه وهدوئه النفسي، مؤمنا بأن الله معه في سعيه وحلّه وترحاله، وفي كسبه لرزقه، بحيث تتشذّب نفسه من الجشع، ويتخلص قلبه من الهلع، وتصبح أطماع الدنيا صفرا على الشمال، لا قيمة لها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ينبغي علينا في شهر رمضان المبارك تلاوة القرآن الحكيم والتدبّر فيه، فهو المقياس الأدبي لسعادة الدنيا والآخرة، فمن اتّبعه سعد في الدارين, ومن تركه شقي في الدين).
هذا هو شهر رمضان الكريم، وهذه بعض مزاياه، وأعظمها أن يسعى الإنسان في هذا الشهر كي يتحوّل من الفوضى والعبث واللهاث وراء المكاسب المزيفة، إلى إنسان مؤمن هادئ مستقر وثابت الجنان، ومنظّم ومنصرف عن هدر الوقت، ومجدد لحياته، وعارف لحقوقه وحقوق غيره، وحريص على كليهما، فشهر رمضان الكريم يتيح للإنسان كي يكون مؤمنا منظّما وناجحا في أهدافه ومساعيه كلّها.