LOGIN
المقالات
alshirazi.org
الحرص والكفاف ضمان حياة ناجحة
رمز 54
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 26 أبريل 2012
لاشك أن الإنسان كان ولا يزال، يبحث عن الاسلوب الأفضل، لإدامة حياته كفرد وكجماعة أيضاً، فجميع الامم، سابقاً وحاضراً ولاحقاً، تستنجد بتعاليم الدين والفكر والفلسفة والعلوم كافة، لكي تحصل على تخطيط أفضل، وتصل إلى منهج حياة يتيح للإنسان مواصلة العيش بسعادة، واستقرار وتطوّر مضطرد، لذلك يبقى العالم والمتعلّم والمثقّف ذا مسؤولية مضاعفة، وكبيرة إزاء الآخرين الأقل وعياً، من أجل تحسين منهج حياتهم.
الاقتداء بأهل العلم
لهذا كان أهل العلم ورجال الدين والنخب كافة، محط أنظار الناس البسطاء، في وعيهم وأفكارهم وحياتهم عموماً، فيتحوّل رجل الدين أو المثقّف إلى نموذج يقتدي به الإنسان البسيط، كي تتطوّر حياته نحو الأفضل، لذا فمحاسبة النموذج تتفوق على محاسبة الآخرين، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في إحدى محاضراته القيّمة حول الحرص والكفاف، إذ يقول سماحته في هذا المجال: (إنّ الناس يقتدون بنا ـ أهل العلم ـ ويتعلّمون من سيرتنا، فنحن نحاسَب على أعمالنا من جهتين، الجهة الأولى كسائر الناس حيث يحاسَب كلّ إنسان عمّا صدر منه، والجهة الثانية لما يستتبعها من اقتداء الناس بها).
إذن فمنهج الحياة المكوَّن من منظومتيّ الفكر والسلوك، يعتمد على طبيعة التربية والتثقيف ونمط العيش، بالإضافة إلى التأثير الغريزي على قرارات وأفعال الفرد، وغالباً ما يكون الإنسان المرفَّه عرضة للخمول والتراجع والضمور في الإرادة قياساً للفقراء، يقول سماحة المرجع الشيرازي في محاضرته القيّمة نفسها: (إنّ طالب العلم إذا كان موسراً تراه لا يبلغ المراحل العلمية العالية في الغالب، لأنّها ستلهيه عن هدفه الأصلي. ولا نعني أنّه سينصرف عن الإيمان، ولكن الأموال ستشغله وتأخذ من وقته وفكره، فيتأخّر عن الدراسة وارتقاء الدرجات، ولهذا نرى معظم مراجع الدين ينحدرون من عوائل فقيرة، بل غالباً ما لا يصبح ابن الغني عظيماً، فإذا كان طالب علم في الحوزة لا يصبح مرجعاً، وإذا كان يدرس في الجامعات لا يصبح أستاذاً أو عميداً مثلاً).
حماية منهج الكفاف للإنسان
وهكذا يتوضح لنا منهج الكفاف، بأنه العيش بعيداً عن إغواءات الحياة الكثيرة، لاسيما في طرق الانحراف والأهواء التي تبحث عنها النفس الأمّارة بالسوء، لذلك لابد من التزام منهج الكفاف وترويض النفس، لأن الكفاف هو منهج الاعتدال والنجاح الدائم، إذ نقرأ بهذا الخصوص قول سماحة المرجع الشيرازي: (إنّ أكبر عقل خلقه الله عزّ وجلّ هو عقل رسول الله صلى الله عليه وآله، وأعظم حكمة أودعها الله تعالى في بشر هي الحكمة التي أودعها رسول الله صلى الله عليه وآله.. وهذا منطق رسول الله صلى الله عليه وآله، فإنّ الذي عنده الكفاف هو في مأمن، أما صاحب الزيادة فمعرّض للأخطار).
حرص الإنسان على الدنيا
إن غريزة الإنسان تدفعه للتعلّق بالدنيا، والاستجابة لإغواءاتها من حيث الجاه والمكانة والمال والسلطة والنفوذ وما إلى ذلك، ولا يتوقف الأمر عند حد معين، فالإنسان غالباً ما يريد الحصول على الأفضل والأكثر والأجمل والأهم وهكذا، إنها سلسلة من المطالب لا تقف عند حد معين، وكلما ازداد أموال الإنسان ازداد لهاثه وراء المال وما يتبع ذلك من أمور كثيرة، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الجانب بمحاضرته المذكورة: (كلّما ازداد المرء أموالاً زادت التزاماته ومسؤولياته وازداد تحديداً وتقييداً، كالشخص المجرّد يبيت ببيت قرب محل درسه لأنّه غير مقيّد بعائلة يجب عليه المبيت عندهم، ولا نعني من قولنا هذا أن لا يكون عند الإنسان شيء، ولكن نريد أن لا يكون عنده حرص، لأنّ الإنسان بطبعه حريص على الدنيا، وأن الترفّع عنها واكتساب الفضائل يتطلّب تربية وترويضاً للنفس، وإلاّ فهي بطبعها ميّالة للتكاثر، فمَن لا يملك بيتاً يتمنّى أن يكون عنده بيت، وصاحب البيت الصغير يتمنّى بيتاً أكبر وأجمل، خاصة عندما يزور صديقه مثلاً ويرى أنّ بيته أفضل. وهكذا الحال مع باقي النعم وما متّع الله به العباد، كالجاه والملكات والقوى والاستعدادات، ولهذا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله بالكفاف لذلك الرجل الذي سقاه وأطعمه).
ولكن لا يعني الكفاف التخلّي عن متطلبات العيش المهمة، التي تحفظ بدورها كرامة الإنسان وحقّه في العيش الكريم، فالإسلام الذي أوصى بالكفاف، لم يطلب من الإنسان أن يعيش على هامش الحياة، بل العيش باعتدال، كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (الكفاف هو المقدار الذي يكفي الإنسان، فهو يحتاج إلى عدّة أمور منها: المقدار الضروري الذي يحتاجه لمعيشته. ما يحتاجه لحفظ كرامته. فمثلاً لا يليق بالرجل أن يخرج إلى الشارع بسروال قصير فقط وإن كان يمكنه أن يعيش به وحده، لكنّه يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك لحفظ كرامته الاجتماعية لأنّه لو خرج بسروال قصير فقط لتعرّض للسخرية والحطّ من شأنه وشخصيته).
الاكتفاء الذاتي للمسلمين
ومع ذلك الحرص والكفاف لا يمنع المسلمين من العمل بالتجارة، أو قلّة العمل بتداول الأموال وما شابه كونها قد تشكّل دافعاً للانحراف، بل دعا الإسلام أن يواصل المسلمون العمل الربحي من أجل رفعة الإسلام والمسلمون، كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: ينبغي مواصلة (العمل من أجل حصول الاكتفاء الذاتي للمسلمين وعدم خضوعهم اقتصادياً للكفّار، ومثاله: التاجر يريد أن يترك عمله لأنّه قد حصل على ما يكفيه من المال، ولكنّ الإسلام يأمر أتباعه بالتجارة لئلاّ تنتقل أزمة اقتصاد البلاد والعباد إلى الكفّار، وهكذا تكون مواصلة العمل بالتجارة جزءاً من الكفاف المطلوب اجتماعياً وإن كان التاجر المسلم قد وصل إلى مرحلة الكفاف الشخصي). لذلك يمكن للإنسان أن يتقشّف ذاتياً، أي مع نفسه، ولكن لايصح هذا مع عائلته واحتياجاتها المهمة، إذ يقول سماحة المرجع بهذا الخصوص: (سبق أن قلنا إنّ الإنسان ينبغي أن يتقشّف على نفسه، ولكنّه يستحبّ له أن يبذل على عائلته وضيوفه، وقلنا أيضاً إنّ على الإنسان المسلم أن يقنع بما يسدّ حاجته ولا يمدّ عينيه إلى المزيد إلاّ فيما أمر الإسلام وضربنا بعمل التاجر مثلاً، وهذه الأمور وأمثالها تكشف عن أنّ هدف الإسلام هو تربية الإنسان لكي يسمو ويتكامل ويرقى روحياً).
كما أن الحرص والكفاف لا يعني عدم المساعدة وغياب التكافل، لأن الإنسان بطبعه يتبرّع بأقل الأشياء نوعاً وكمّاً وفقاً لرؤية خاطئة، لأن هدف الإنفاق هو مساعدة المحتاج على أفضل وجه، كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي في محاضرته هذه: (الملاحظ أنّ أغلب الناس يأكل الأفضل ويلبس الأجود ويسكن الأرفه… ولكنّه عندما يريد أن يعطي وينفق فإنه يُخرِج الأدوَن والأقلّ وما لا حاجة لنفسه فيه. فإذا أراد أن يعطي فاكهة لفقير مثلاً أعطاه الفاكهة الرديئة، وإذا سُئل عن سبب ذلك قال: لأنّ الفقير متعوّد على أكلها. وإذا أراد أن يعطيه مالاً أعطاه قليلاً جداً مدّعياً أنّ ذلك يكفيه وأنّه لا يأمل أكثر من ذلك؛ غافلاً عن أنّ للإنفاق هدفين، الأوّل سدّ حاجة المنفَق عليه، والثاني - وهو الأهم - تحقيق الكمال للمنفِق نفسه).