شبكة النبأ: شعوب العالم أجمع، كلها تتطلّع إلى وضع أفضل، وحياة أجمل وأكثر رحمة وإنسانية، حيث يعيش الجميع في ظل دولة مدنية معاصرة، تحفظ حقوق الضعيف والقوي، الفقير والغني، والمتنفّذ والعادي، فالكل سواسية أمام القانون والنظام، لكن هذا الحلم الأزلي، لم يتحقّق لكثير من الشعوب حتى الآن، لاسيما في الدول التي تتخذ من الإسلام ديناً رسمياً لها، حيث الظلم والانتهاك والتجاوز على حقوق الشعب هي السمات البارزة لأنظمة الحكم في هذه الدول.
اختلاف العقول والعواطف
من سنن الحياة أنها ترعى الأضداد، حيث النهار والليل والحزن والفرح والأبيض والأسود والخير والشر، هذه الثنائيات، تجعل من الإنسان ذي تركيبة نفسية متصارعة، لهذا تختلف عقول وعواطف وأذواق وآراء الناس، لاسيما الشيوخ والشباب، الأمر الذي يؤدّي إلى صعوبة وجود النموذج القيادي الأمثل، لأن هذه المتضادات الفكرية وسواها قد تزيد من هوة الاختلاف بين الناس، يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, في توصيف هذه الحالة كما ورد في كتابه القيّم الموسوم بـ(السياسة من واقع الإسلام): (إنّ الناس كما يختلفون في أشكالهم، وألوانهم، ولغاتهم.. كذلك: يختلفون في أذواقهم، وعقولهم، وعواطفهم. ويختلفون في إدراكهم، وفهمهم، وتحليلهم. ويختلفون في خلفياتهم، ونظراتهم، ومعطياتهم. فبين شباب لا ثقة لهم بفكر الشيوخ. وبين شيوخ لا ثقة لهم بتجلّد الشباب. ومن هنا تلعب الأهواء، والميول، والاتجاهات.. في هذا المجال - أي في السياسة- أدوارها الفعالة).
ولكن يحكي لنا التأريخ عن شخصيات قيادية عظيمة استطاعت أن تقفز بشعوبها إلى بر الأمان والتطوّر، بعد الظلام والقحط والفقر والحروب والاقتتال، كما نلاحظ في قيادة رسولنا الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله، حيث نقل بحنكته السياسية، شعب الجزيرة إلى مصاف الشعوب المتطوّرة، فبنيت دولة الإسلام التي كانت تعدّ من أقوى دول العالم آنذاك، لذلك تمكّن الرسول أن يجمع حوله جموعاً هائلة من البشر آمنت به وسارت خلفه، نتيجة لسياسة حكيمة وشخصية عظيمة، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص في كتابه المذكور: (لقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله سيّداً لساسة العالم، وأكبر سياسي محنّك، فهو تلميذ الله تعالى، وأستاذ جبرئيل، وسيد الأنبياء عليهم السلام ومعلّم البشرية أجمعين. وسياسته هي التي حيّرت العقول، وأشخصت أبصار العالمين.. وبهذه السياسة الحكيمة استطاع رسول الله صلي الله عليه وآله أن يجمع حول الإسلام أكبر عدد ممكن من البشر، في مدّة قصيرة، أدهشت التاريخ، وأنست الأولين والآخرين، وأخضعت حكماء العالم لها إجلالاً وتقديراً.. مما لا يوجد في تاريخ العالم الطويل مثيل ولا نظير لها).
القائد السياسي ونكران الذات
لذا ينبغي على حكّام اليوم ـ لاسيما المسلمين ـ أن يكونوا قدوة لشعوبهم، من حيث الخصال القيادية والإنسانية الحميدة كالشجاعة والوفاء والزهد والايثار ونكران الذات وما شابه، لأن عيون الناس تراقب ما يفعله القائد وأسماعهم تتلقّف أقواله، كونه نموذجاً لهم، فإذا كان شجاعاً ستنتقل هذه الصفة أو الملكة إلى عموم الشعب والعكس يصح، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (إن رسول الله صلي الله عليه وآله كان دائم الحذر، ودائم الانتباه لكل ما يحدث أو يجري حوله بحيث يكون هو أول من يصل مكان الحادث، ويأتي المسلمون فيصلون بعد رسول الله صلي الله عليه وآله إلى ذلك المكان، وهذه هي السياسة الشجاعة التي قلّما يذكر التاريخ لـه نظراء في القادة والساسة. وليس على قادة المسلمين ـ من أتباع الرسول صلي الله عليه وآله ـ إلاّ أن يتّخذوا مثل ذلك شعارهم الذي يعرفون به حتى يكون المسلمون باطمئنان في وصولهم إلى الغاية في مسيرتهم السياسية الطويلة والشائكة).
حتى الصفات والخصال الأخلاقية تنتقل من القائد إلى شعبه، أي إذا كان ملتزماً وخلوقاً وزاهداً، هذه الصفات تظهر في نشاطاته العملية أو في خطاباته الموجّهة إلى الشعب، ومنها على سبيل المثال مبدأ الوفاء كما كان لدى نبيّنا الأكرم صلى الله عليه وآله، حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: كانت (سياسة الرسول صلي الله عليه وآله التي هي: إدارة البلاد والعباد بمعناها الصحيح كما يحبّ الله تعالى ويرضاه، كانت مبتنية أيضاً على الوفاء بالوعد، والالتزام بالقول، والوفاء الخلقي. وقد ذكر المؤرخون الكثير من القصص الرائعة في ذلك).
منظومة الفضائل والأخلاق
وهكذا تكون منظومة الأخلاق والفضائل دافعاً لتحسين خصال الشعب، إذا لاحظها موجودة لدى قائده، ومنها على سبيل المثال الكرم وقضاء حوائج الناس والسخاء في محلّه، على أن يتم ذلك بعدالة ومساواة تامّة، فلا فرق بين هذا الشخص أو ذاك، فطالما هم أبناء شعب واحد ينبغي أن يكون التعامل الإنساني والتكريم متساوياً بينهم، إذ يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلاً بهذا الخصوص في كتابه نفسه: (كان رسول الله صلي الله عليه وآله مضرب المثل في العطاء والكرم والجود، حتى قيل عنه: - إنّه يعطي عطاء من لا يخاف الفقر-. فكان يعطي للمهاجرين. ويعطي للأنصار. ويعطي لأهل المدينة. ويعطي لأهل القرى والأرياف. ويعطي للمسلمين. ويعطي للمنافقين. ويعطي للكفّار أيضاً، تأليفاً لقلوبهم).
إن التأثير الكبير الذي تتركه شخصية القائد في شعبه، تؤكد أهمية بل حتمية أن يكون هذا القائد نموذجاً لشعبه، ولا يجوز في أي حال أن يكون القائد ذا شخصية فاشلة أو متردّدة أو تتسم بالشراهة والاستحواذ والدناءة، أو الخداع والتضليل والمراءاة، لأسباب مهمة أولها أنه سيفشل في قيادة الدولة والشعب، والثاني انه سينكشف للجميع ويتم اسقاطه من عرشه مهما كلّف الأمر من تضحيات، لذا على قادة اليوم المسلمين أن يكونوا النموذج الأمثل لشعوبهم بكل ما يتصف به الإنسان من خير ورقي وإنسانية في القول والفعل. وهكذا كانت شخصية أمامنا العظيم عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه, حينما كان قائداً للدولة الإسلامية. حيث كانت شخصيته تلقي بتأثيرها الأخلاقي والإنساني الكبير على عموم الأمة، يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص: (القائد تكون أعمالُهُ درساً للشعب، ومنهاجاً للأجيال، ولذلك كان القائد متحمّلاً لما يمارسه الشعب نتيجة تعلّمه منه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. والحياة الشخصية للقائد أدق مدرسة للأجيال المتمسّكة بذلك القائد، ولهذا كان من سياسة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه بناء حياته الشخصية على الإيمان والزهد).