منذ عقد والأحداث المتسارعة تؤكّد أن المرحلة الحالية استثنائية في كثير من تفاصيلها ويبدو أن نتائجها ستكون استثنائية أيضاً، فبعد أن توفّرت عوامل جيوسياسية واجتماعية واقتصادية محلّية ودولية اندفعت شعوب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في رحلة تغيير تكاد تلامس القيم والمفاهيم والطبائع دفعة واحدة، وقد رسمت هذه الدفعة التغييرية الجارفة صورة - عند البعض - توحي بأن ما يجري ليس إلاّ مجرّد فوضى وسوق إلى مجهول لما اعترى المشهد من انهيار أنظمة دول وأحداث دموية ونشاط متوحّش لقوى الإرهاب, ضرب العباد والبلاد، بينما هناك من اعتبر ما يجري على أنه (استحقاقات طبيعية)، حيث قرّرت هذه الشعوب الساعية إلى التحرّر من الاستبداد تطهير جسدها من كيانات سرطانية، وبالتالي فإن ما يجري هو مخاض ولادة منطقة جديدة تسترجع من خلاله الشعوب إيمانها بقيم الإسلام: العدل والحريّة والخير والسلام والرفاه بعيداً عن نزعة التكفير والقتل (الديني) وممارسات العنف والقمع والكراهية، وأيضاً، بعيداً عن الغوغائية والشعبوية والرعاعية.
إن تجديد إيمان هذه الشعوب بقيم الإنسان والحياة لم يعد مقبولاً أن يكون شكلياً فيقولوا (آمَنَّا... قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ فِي قُلُوبِكُم). فالتطوّر الإنساني الذي وصلت إليه البشرية اليوم وحركة التغيير الجارية فرضا واقعاً تغييرياً سيظل متحرّكاً في سائر المجتمعات (المقهورة) ولن يتوقّف إلاّ بسيادة قيم الحريّة والسلام، لا سيما وإن هذه القيم قد أصبحت أهم عوامل بقاء الفكرة والدولة والأمّة، وكما أن (الفتنة تبير المنافقين) فإن في (الفتنة... هلاك الجبابرة، وطهارة الأرض من الفسقة) كما يقول الإمام الصادق صلوات الله عليه. حيث بها تتفتت أدوات التزييف والتشويه التي تطيح بوعي الأمة، وهو ما حدث في عاشوراء، فالفتنة التي أسّسها خلفاء بغاة وأيقظها طغاة الحكم وفقهاء الفجور والتي أدّت إلى مقتل سيد الشهداء صلوات الله عليه، حيث لم يكن للإسلام أن يستقيم إلاّ بقتله، هي نفسها (الفتنة) أفضت أن يكون الإمام أبو عبد الله الحسين صلوات الله عليه قوّة إنسانية تستنهض العقول وتوقظ الضمائر وتحرّك الإرادات تجاه فعل البر والخير والإصلاح ومقارعة الطغاة والمفسدين، وقد ألهمت النهضة الحسينية القيمية الأمة الثبات في مواجهة الطغاة حتى (أبارت) الحكم الأموي البغيض وأنظمة جائرة جاءت بعده.
واليوم، يتبين إن هناك تغييراً في قناعات (دينية)، وهو تغيير تاريخي لم يكن إلاّ بعد رحلة دامية كشفت زيف الانتماءات وطبيعة المنطلقات الشرعية والعقلية (الشوهاء) التي كان (المنخدعون) يتحرّكون من خلالها في فهم الدين والحياة، فإنّ المدن التي احتضنت التنظيمات التكفيرية بدافع (مقاومة المحتل) أو (الدفاع عن المذهب) أو (التحرّر من الاستبداد) سرعان ما نفضت عناصر تلك التنظيمات، بل قاتلتهم قتالاً شديداً، وذلك بعد أن كانت هذه العناصر قد أوقعت الضرر والضرار بمصالح أهالي تلك المدن، وإن من نتائج التغيير الجاري في المنطقة أن تسلّطت الأضواء على (الفقه) الذي يشيع القتل ذبحاً والخراب تفجيراً، كما أن الجغرافية المجتمعية الرافضة لقوى الفتنة والإرهاب والتطرّف آخذة بالتوسّع، وهذا كله يمثّل خطوة مهمة في استراتيجية بناء منطقة جديدة برؤى وأفكار أكثر إنسانية فرضتها حاجة فاعلة إلى السلام والرفاه، وإن أحد بنود هذه الاستراتيجية الاسترشاد بتراث أهل البيت صلوات الله عليهم, وهذا ما أشارت إليه مراكز علمية دولية، وهي بداية تدعو إلى التفاؤل بغد مشرق بقيم آل محمد صلوات الله عليهم, وإن كان الواقع يدعو إلى الحذر وملازمة الصبر، لكن الواقع يشير (بالأرقام) الى إننا اليوم أقرب إلى التفاؤل، لا سيما وإن سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله يقول: (إن القرن الحالي هو قرن مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه, وقل اعملوا).
المصدر: أجوبة المسائل الشرعية: العدد176