LOGIN
المقالات
alshirazi.org
الطغاة وإدامة ظاهرة الطغيان
رمز 85
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 27 سبتمبر 2012
شبكة النبأ: الطغيان ظاهرة يصنعها الطغاة، ولا ينحصر الأمر بالحكّام فقط، بل يمتد إلى آخرين منهم رئيس الدائرة، ومدير المدرسة، وربّ العائلة أيضاً قد يكون طاغية في مؤسسته العائلية الصغيرة، فيفرض على عائلته نظام أوحد يتمثّل بتنفيذ أوامر الأب من دون نقاش أو اعتراض أو رفض، وهذا ينطبق على المدراء والرؤساء، لكن كلما كان المنصب أعلى وأوسع، كلما كانت أضراره أكثر شمولاً للناس، كما هو الحال مع رئيس الدولة أو الحكومة إذا كان متجبّراً طاغياً، فإن قراراته المسيئة (دائماً) ستضر الشعب بأكمله، وليس فرداً أو مجموعة من الناس.

وأخذ سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله على عاتقه تفسير وتوضيح مفردة ومعنى الطاغوت، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الحرية في الإسلام) موضّحاً بأن (الطاغوت من الطغيان وهو التجاوز عن الحدّ)، والحد هنا هو حد الله تعالى، والذي تتفرّع منه جميع الحدود المتعارف عليها، في أحكام الشرع، وفي السنن والأعراف والأخلاق المتّفق عليها عموماً، ولا ينحصر التحجيم وكبت الحريّات، على أفعال الناس وأعمالهم المختلفة، بل هناك طغيان فكري، يرفض الفكر الواعي المتحرر ويقارعه، كونه يقف إلى جانب السلطان، ويؤازره في انتهاكاته ضد الشعب، متجاوزاً بذلك حدود الله تعالى.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المذكور بهذا الخصوص: (يستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمة الفكر المنحرف).

الطغيان وتجاوز الحدود
الضوابط الدينية والعرفية والأخلاقية تحدّد بوضوح ظاهرة الطغيان، وتصفها بالقمع والانفراد وفرض الرأي بالقوة الغاشمة حتى لو كان منافياً للحكمة والتعقّل، إذ كثير من الحكّام الطغاة تسبّبوا لشعوبهم بأفدح الأضرار بسبب فرض رأيهم بالقوة، أما بخصوص السياسة، فهناك حريّات وحقوق وواجبات، تدركها الدساتير لتنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، شريطة أن تحظى بالقبول الشعبي الواعي، وما عداها فهي دساتير شكلية، يدبجها كتَبَة الحكّام الطغاة، كغطاء لجرائمهم البشعة ضد شعوبهم، ولا تزال التجارب ساخنة، تلك التي تؤكّد لنا أن الحكّام الطغاة لا يعترفون بالدستور، ولا بالحريّات الفردية أو الجماعية، ودائماً يعتقدون بأنهم على صواب، حتى لو أدّت قراراتهم الفردية إلى الخراب الشامل لحياة الشعوب.

ولا يختلف طغاة الغرب عن الشرق، إذ لا تخلو جهات الأرض منهم على مر التأريخ، فهذا لينين ـ رئيس جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وأمين سرّ الحزب الشيوعي السوفيتي ـ يقتل ويشرّد وحده في عصر الحريّة والتقدّم خمسة ملايين إنسان من أجل تطبيق مادّة قانونية واحدة من قانون المزارع الجماعية في الاتّحاد السوفياتي السابق!! كما يذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه.

الدين يرفض الاستبداد
الدين الإسلامي في جوهره هو دين الحريّة، استناداً إلى الآية الكريمة التي تنص على أنه (لا إكراه في الدين)، لذا ليس هناك حالة إكراه في الدين الإسلامي، ولا ينبغي أن تكون، حيث يذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي، في كتابه (الحريّة في الإسلام) قائلاً بهذا الصدد: (من أصول الإسلام المسلّمة والمؤكّدة مسألة حرية اختيار الدين؛ قال تعالى: لا إكراه في الدين).

لكن الأمر مع طغاة العصر يختلف تماماً، إذ هناك مسار واحد يفرضونه على الشعوب، وهو أن تسير الناس في طريقهم ومسارهم، من دون رأي أو صوت معارض، وإلاّ فإن القصاص، أرواحهم وأملاكهم وأبناءهم، وبهذا تنتهك الحريّات أيّما انتهاك، وتصادر الآراء أيّما مصادرة، بينما في الإسلام والحكومات الإسلامية التي خلّدها التأريخ في حلقاتها المشرقة، لا تجاوز على حريّة الفرد، يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي على هذا الجانب قائلاً: (ليكن معلوماً ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحريّة لا واقع للحريّة فيها سوى الاسم. أمّا الإسلام فهو دين الحريّات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً).

الإسلام يحرّر الإنسان
لهذا لا يعترف الإسلام، بالحكّام الذين يتجاوزون على الحريّات، ويضربون حولها الأسوار الشاهقة، إذ يرى الإسلام، أن الوضع الطبيعي لحركة الناس، والأشياء، والحياة برمّتها، ينبغي أن تحكمه الحريّة، شريطة عدم الإضرار بالغير، يذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي، حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (يقول الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة أن لا تضرّ غيرك).

وهكذا يمكن أن تنتظم الحياة، وفقاً لهذا القانون الإسلامي، لتصبح حاضنة ملائمة للفرد والجماعة، بل لشعوب العالم أجمع، لتعيش في اجواء الحرية، التي لا يحكمها حاكم أو طغيان، سوى شرط لا يرفضه عاقل، وهو أن لا تضرّ غيرك عندما تمارس حريّاتك المتعارف والمتفق عليها.

بل ينبئنا التأريخ، أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهو قائد الدولة الإسلامية في نشأتها الأولى، قدّم إنموذجاً للقائد المتحرّر والمتسامح مع الجميع، حتى مع أعدائه الذين ظلموه، وتجاوزوا عليه وعلى ذويه وأصحابه، إذ نقرأ في كتاب المرجع الشيرازي بهذا الصدد:

(هكذا روى التاريخ عن سلوك نبيّنا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟)!

ويتكرّر منهج التحرّر، في حكومة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فنجد النموذج الأمثل للحاكم الذي يرعى شعبه، ويساعدهم على معرفة حقوقهم والعمل بحريّاتهم، بعيداً عن القسر والظلم والإجبار، تحت ضغط المصالح السلطوية، التي غالباً ما تعمي بصيرة الطغاة، بل التسامح والنصح والتوجيه يشمل حتى المعادين للحكومة الإسلامية، وهنا تتضح بجلاء تام أجواء الحريّة، التي كانت تعمّ العلاقات المتبادلة بين الحكومة والشعب أو الأفراد، فهم أحرار في آرائهم تماماً، ما لم يلجأوا إلى القوة والسيف، يذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي دام ظله, قائلاً في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (ها هو الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك، وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمّة قاطبة ناهيك عن كونه مُنَصّباً من قِبل رسول الله صلى الله عليه وآله وبأمر من العليّ القدير، بل كان يجيبهم ويترك لهم حريّة العقيدة ما لم يتآمروا ويلجأوا إلى استعمال القوّة والسيف).

الطغاة ضد الحق
على خلاف ذلك، ينحرف الطغاة عن جادة الحق، وهم يعرفونه حق المعرفة، لكنهم يتمسّكون بالباطل، تحت ضغط أطماعهم، ومصالحهم ونفوسهم المصابة بالضعف والهوان، وهم يعطون بذلك صورة واضحة عن قمع الحريّات ومصادرة الآراء، حماية لعروشهم التي ستهتز وتسقط عاجلاً أم آجلاً، كما تخبرنا بذلك أحداث التأريخ والوقائع الحاضرة أيضاً, ومع ذلك ينسى طغاة العصر أو يتناسون، مصيرهم الذي ينتظرهم، فهم مهدّدون بالسقوط في الدنيا، ومحاسَبون على جرائمهم في الآخرة، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص:

(إنّ من عرف الحقّ ولم يترك الباطل فإنّ مصيره يوم القيامة إلى جهنّم وبئس المصير. أمّا في الدنيا ف‍ـ ـ لا إكراه في الدين ـ ليتمّ الامتحان ويُعرف الطالح من الصالح، ويُميّز الخبيث من الطيّب).