شبكة النبأ: (هناك من العثرات الفرديّة ما يسري خطرها إلى الجماعة) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
حينما ينشط الإنسان ويتحرك لدواعي العيش والإنجاز، فإنه لا ريب يتعرض لخطأ هنا وآخر هناك، وهذا أمر طبيعي، فبنو الإنسان معرَّضون للخطأ لأنهم ليسوا معصومين منه، كما هو الأمر مع الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، ولذلك ليس من الغرابة أن يخطئ الشخص في موقف أو كلمة أو فعل ما، لكن فداحة الخطأ وخطورته عندما لا يتداركه المرء، في هذه الحالة تتحول العثرة (الخطأ) إلى صرعة مميتة أو زلل قاتل.
فطالما كان الإنسان على قيد الحياة، فهو محاط بل محاصَر بالمغريات وبزخارف الدنيا وزينتها، وحينئذ من الممكن أن يسقط في الخطأ أو العثرة، ولكن هنالك فرق كبير بين من يخطئ ويسارع إلى تصحيح خطأ، وبين ذلك الذي يخطئ ويصرّ على خطئه، فتتكاثر خطاياه وتتحول من عثرة صغيرة إلى صرعة مميتة وقاتلة، بسبب إصرار الإنسان على الخطأ وتجاهله لما ارتكبته نفسه من عثرات متراكمة، فتكون النهاية صرعة قاتلة بدلا من عثرة صغيرة يمكن للإنسان تصحيحها والعودة إلى الاستقامة والمسار الصحيح.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ ( يا أبا ذر):
(العثرة بمعنى السقوط إلى الأرض، وهي أمر طبيعي في حياة الإنسان، لأنّه ليس كائناً معصوماً، لاسيما وأنّه كثيراً ما تبهره زخارف الدنيا وزينتها، ولذلك يقترف الذنوب، ويتعدّى على حقوق الله أو الناس، والنبيّ صلى الله عليه وآله يوصى أبا ذر رضوان الله تعالى عليه ويذكّره خطر العثرة والسقوط، لئلاّ تتبدّل عثرته إلى صرعة) .
هناك سقطة صغيرة يقع فيها الإنسان، لكنها قد تقعدهُ وتمنه من القيام مرة أخرى، لأنه لم يتصدَّ لها وهي في بدايتها، أي أنه تغافل أو أغفل الذنب أو المعصية التي ارتكبها، ولم يعالجها على الفور، فارتكب الخطأ الثاني والمعصية الثالثة والذنب الرابع، ولم يعد يهمه ارتكاب الأخطاء بشكل متواصل، فتتراكم ذنوبه وأخطائه حتى يغدو من المستحيل العودة إلى الصواب، بل ينحدر في السقوط ويعجز عن النهوض مرة أخرى.
الذنوب الصغيرة قد تنتهي كبيرة
حين يتعرض شخص ما إلى مرض بسيط ويهمله، سوف يزداد هذا المرض، ويتشعب، وينمو وينتشر في جسد الإنسان، حتى يصل إلى درجة لا تفيد معها المعالجة، لأن المرض استوطن الجسد المريض، على العكس من ذلك لو أن المريض بادر منذ اللحظة الأولى عندما كان المرض صغيرا وعالجه، فإنه يستطيع النهوض مرة أخرى.
الخطايا والذنوب التي يرتكبها الإنسان كالمرض أيضا، تبدأ صغيرة يمكن التصدي لها ومعالجتها، لكن إهمالها والتغاضي عنها، ومواصلة السقطات الصغيرة المتتالية، تراكمها شيئا فشيئا، فتصبح مسألة علاجها غير ممكنة، مما يطيح بالإنسان في صرعة مميتة.
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين يقول:
(إنّ من السقطات الصغيرة التي يتعرّض لها الإنسان في الدنيا ما تعيقه وتعجزه عن القيام مرّة أخرى، شأنه في ذلك شأن المصاب بمرض بسيط، ولكنّه يغفل عن معالجته حتى يستفحل عليه ويتسبّب له بأمراض خطيرة ومميتة).
السقوط غالبا يأتي على نوعين:
السقوط المادي: وهو سقوط فعلي يتعرض له جسد الإنسان، كأن يتعرض لحادث ما، فيحدث في جسمه جروح غائرة بسبب سقوطه أو تعرضه لكدمات أو حالة دهس وما شابقه، لكن هذه الجروح الجسدية المادية سيأتي عليها وقت تبرأ وتندمل وقد لا يبقى لها أثر في جسد الإنسان، حتى لو كانت الجروح كثيرة وكبيرة فإنها في يوم ما تلتئم.
السقوط المعنوي: هو النوع الثاني من السقوط، وهو غير مرئي، لأنه نفسي غير مادي، لا يُرى بالعين، وإنما يُدرَك بالبصيرة والتأمل والذكاء، فحتى لو أخفى الإنسان سقوطه المعنوي عن الناس، فإنه يظهر عليه في نحوله وضعفه وهشاشته، وفي تلكّؤه بالكلام، وضعفه، وتلاشي ثقته في نفسه، وهذا النوع من السقوط أكثر قسوة وأذى وألم من الجروح المادية التي يتعرض لها جسد الإنسان.
الجرح في السقوط المعنوي يصيب الروح، فيكسرها، ويجعلها في حالة من الخذلان، ما ينعكس على قدرات الإنسان، فيسلبها كلها، ويغدو الإنسان وإن كان جسده خاليا من الجروح المرئية، إلا أنه مصابا بالخواء التام والخمول والتردد، لذلك يجب على الإنسان مثلما يبادر بسرعة لمعالجة سقوط المادي (جروحه الجسدية)، عليه أن يبادر بسرعة أكبر لمعالجة جروحه المعنوية، حتى يستعيد قدراته وإمكاناته، ولا تتحول سقطته إلى صرعة قاتلة.
لذلك فإن باب التوبة مفتوح أمام الإنسان الذي يزلّ، ويمكن أن تصبح عثرته ممكنه التصحيح، لأن المغفرة الإلهية موجودة دائما، أما الإيغال بمنهج السقوط المتكرر، فإنه يضيّع على الإنسان فرصة إنقاذ نفسه ويغالي في استكباره وغيّه.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذه النقطة:
(قد يحدث أن يُصاب جسم الإنسان بجرح عميق، ولكن من شأن هذه الإصابة أن تلتئم في حال المعالجة والعناية الدقيقة، وهكذا هو شأن العثرة المعنويّة، فالذنب والسقوط، مهما عظم وكبر، فإنّ رحمة الله المطلقة وعفوه اللامحدود يُجبران زلّة الإنسان، إن هو أراد التوبة، أمّا إذا عتا واستكبر، فسيذوق وبال أمره، عاجلاً أم آجلاً).
تأثير النموذج القيادي بعامة الناس
لذلك ليس هناك تحذير شديد من السقوط الجسماني أو المادي، فغريزة الإنسان وخوفه تحميه غالبا من هذا النوع من السقوط، لكن المشكلة الكبيرة تكمن في السقوط المعنوي، أي في سقوط الروح، وتزعزع إيمانها، وانحدارها في المحرمات والزلات المتتالية، هذا يجعل الإنسان قابلا ومعرَّضا للصرعة المميتة في كل حين، لأنه متمسك بالمنهج الخاطئ ومصرّ على ارتكاب الخطايا، فتكون نتيجته الصرعة القاتلة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ ما يقصده النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من تحذيره أبا ذر من السقوط، ليس هو السقوط الجسماني والمادّي منه، بل هو السقوط المعنوي، وإذا ما حدث ذلك، فينبغي الإسراع إلى معالجة الأمر، لئلاّ يتحوّل إلى صرعة دائمة مميتة).
ولعل من أخطر العثرات الفردية، تلك التي تنعكس على الآخرين، فتؤثر فيهم، وتسحبهم إلى دائرة الخطايا والذنوب والمعاصي، وهذا يحدث في حالة انحراف النموذج الاجتماعي الأخلاقي في الأسرة أو في محيط العمل أو حتى في الدولة، فحين ينحرف الأب فإن أفراد العائلة سوف يصابون بذلك الانحراف، لأن الأب هو الذي نقل لهم هذه الأخطاء كونه مثلا لأبنائه.
كذلك حين يكون رئيس دولة ما أو قائد أو مدير لدائرة، منحرفا، ومحاطا بالعثرات والسقطات، فإن الشعب، سوف يسقط (لأن الناس على دين ملوكهم)، وكذلك الأمر بالنسبة للقائد، فسلوكه ينعكس على عامة الناس، ومدير الدائرة يتأثر به الموظفون التابعون له، وغالبا ما يتأثر الناس العاديين بنموذجهم أكثر من الآخرين.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(هناك من العثرات الفرديّة ما يسري خطرها إلى الجماعة، فمثلاً: إذا كان ربّ البيت سيّئ الخُلُق، فإنّه سيؤثّر شيئاً فشيئاً في سائر أفراد الأسرة. وهكذا سيكون تأثير سوء الخلق لدى الحاكم أو المسؤول أكثر بكثير منه في الأفراد العاديين في المجتمع).
لذا على الإنسان أن يتحاشى السقوط المعنوي، لأنه أكثر صعوبة ومشقة من السقوط المادي، وعلى الإنسان أن يصحح خطأه بأقصى سرعة ممكنة حتى لا تتراكم أخطاؤه وتصبح غير قابلة للمعالجة، ومثلما يلهث الإنسان لمعالجة جرحه الجسدي المادي كي يندمل هذا الجرح، عليه أن يسارع بسرعة أكبر لمعالجة عثراته قبل أن تتحول إلى صرعة مهلِكة.