شبكة النبأ: لا شكّ أن السعي لبناء دولة العدالة يهدف أيضاً إلى القضاء الكلّي على ظاهرة الطغيان الحكومي، لأن الطغيان والعدل لا يلتقيان، وأينما كان العدل الحقيقي غاب الظلم والطغيان تماماً، وهذا ما تهدف إليه دولة العدالة، من خلال إرساء ركائز العدل والمساواة ونشر مبادئ التقارب الإنساني بين أفراد وجماعات المجتمع، مثل التسامح والتكافل والتعاون وتكافؤ الفرص واحترام الرأي وغيره من الخصال الإنسانية التي يتحلّى بها مجتمع دولة العدالة.
لذلك أول أهداف هذه الدولة هو القضاء على الطغيان بكل أشكاله، وهناك أساليب عدّة لتحقيق هذا الهدف، يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, في معنى الطغيان, بكتابه الموسوم بـ(الحريّة في الإسلام): (يستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمة الفكر المنحرف).
الإسلام ودولة العدالة
من المؤكّد أن من يهدف إلى بناء دولة العدالة سيكون بحاجة إلى النموذج كي يسير على هديه وخطواته، لذلك فإن دولة الإسلام في عصر الرسالة كان يقودها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله، هي النموذج الأمثل للسير على خطاها، والسبب إنّ الحريّة والعدلة تكمن في جوهر الإسلام المناهض للطغيان والظلم بكل أشكاله.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور: (إنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم. أمّا الإسلام فهو دين الحريّات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً. وهذا موضوع طويل يتطلّب من الباحث أن يطالع الفقه الإسلامي بتعمّق ـ من أوّله إلى آخره ـ لكي يعرف كيف أنّ الإسلام التزم بمبدأ (لا إكراه في الدين) في مختلف مجالات الحياة).
ولعل النموذج الفريد الذي نلمسه في طيات التاريخ، يكمن في ذلك التعامل الإنساني المتحضّر من لدن القائد الأعلى للدولة الإسلامية مع خصومه وأعدائه، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (رغم كلّ ما فعله المشركون من أهل مكّة مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أنّ التاريخ لم يحدّثنا أنّه صلى الله عليه وآله أجبر ولو شخصاً واحداً على الإسلام، ولو أنّه صلى الله عليه وآله أراد أن يجبر أهل مكّة على الإسلام لأسلموا كلّهم تحت وطأة السيف، لكنّه صلى الله عليه وآله لم يفعل ذلك ولم يجبر أحداً على الإسلام).
والاسلوب المتحضّر نفسه استخدمه الرسول محمد صلى الله عليه وآله مع أهل مكّة وهم الذين حاربوه وطاردوه وحاصروه وتسبّبوا بأشدّ الأذى له وذريّته على مرّ السنين، وحينما اشتدّ عود المسلمين وتمّ فتح مكّة كان الطغيان أبعد ما يكون عن قائد الدولة الأعلى، لأنها خير مثال لدولة العدالة، يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص بكتابه نفسه: (هكذا روى التاريخ عن سلوك نبيّنا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يهديهم وينصحهم ويوضّح لهم طريق الرشد ويميّزه عن طريق الغيّ ثم يترك الاختيار لهم).
لا إجبار ولا قسر
في دولة العدالة ليس هناك إجبار على الفكر أو على الانتماء أو سواه، فالإنسان في دولة العدالة حرّ وتتمّ معاملته وفقاً لمبدأ الحريّة والعدل، لذا نقرأ قول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه: (هكذا الحال في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله مع اليهود والنصارى. فلقد ردّ صلى الله عليه وآله عشرات الحروب والاعتداءات التي شنّها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام. لم يسجّل التاريخ ولو حالة واحدة يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجبر ذميّاً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وسجّل وحفظ الدقائق عن حياته).
ولنا أيضاً نموذجاً آخر لدولة العدالة, يتمثّل بقيادة الإمام عليّ صلوات الله عليه للمسلمين وكيفية نشره لمبدأ العدل، ومراعاته للدور المعارض للحكم، على الرغم من خطورة الأعداء وأساليبهم الماكرة في الإساءة للدولة الإسلامية، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الجانب: (لو انتقلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل بيته سلام الله عليهم لرأينا الحالة نفسها. فها هو الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قد كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك، وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمّة قاطبة).
إنّ الطغيان غاب تماماً في الدولة النموذج، وكذلك الظلم، حتى العدو لا يُظلم في دولة العدال، ومثالنا القاطع في هذا المجال، قيادة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه للدولة الاسلامية ومراعاته للجميع ، سواءً مقرّبين أو أعداءً. يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الخصوص بكتابه المذكور نفسه: (لقد أُقصي الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه خمساً وعشرين سنة ثم توجّهت إليه الأمّة وتزاحمت على بابه للبيعة حتى لقد وطئ الحسنان،. ومع ذلك ذكر المؤرخون ـ سنّة وشيعة ـ أنّ الإمام بعدما بويع، ارتقى المنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وكان المسجد مكتظّاً بالناس الذين حضروا لاستماع أوّل خطبة لابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيّه وخليفته الحقيقي الذي أُبعد عن قيادة المسلمين خمساً وعشرين سنة، بعد أن آل إليه الحكم الظاهري، ثم أمر جماعة من أصحابه على رأسهم ابنه الإمام الحسن سلام الله عليه أن يذهبوا إلى الكوفة وينظروا هل فيها مَن لا يرضى بخلافته).