LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: حُسن الخُلُق
رمز 45993
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 27 ذوالحجّة الحرام 1445 - 4 يوليو 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلی الله عليه وآله، أنه قال: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ اَلْأَخْلاَقِ)(1).

بما لایقبل الشك والتردید أن الأخلاق الفاضلة هي الأساس لنیل الكثير من الموفقية في الدنيا والآخرة، فالرجل الذي یسعی لدنیاه يوفق لها أکثر من غیره إذا كانت أخلاقه حسنة. وكذا رجل الدين یوفّق في دینه إذا کانت أخلاقه عالیة‌، ولافرق في ذلك بين الرجل والمرأة.

فالتأكيد علی الأخلاق الحسنة الذي ورد في القرآن الكريم، هو تأكيد متواتر وفي مجالات کثیرة وأبعاد واسعة، فيكفي بالشخص أن يعزم على حسن الخلق وجمع الفضائل بمقدار ما يمكّنه به لسانه ونظره وسمعه وتصرفه.

كل شيء في هذا الکون، یمکن قیاسه علی أساس الأخلاق وعدمها،‌ فالمُدرّس قد يُدرس تلامیذه بأخلاق حسنة وقد يدرّسهم بأخلاق سیئة. الزوج قد يتعامل مع زوجته بحسن الخلق وقد يسيء الخلق معها، الحاكم يمكن أن يتعامل مع المجتمع کمواطنین ویحسن معهم الخُلق، ويمكن أن يتعامل معهم کرعایا بسوء الخلق، وهكذا في سائر الأمثلة.

لکن السؤال: أي أسلوب من التعامل یحقق الموفقیة والنجاح، هل الذي یتعامل بحسن الخُلق، أم الذي یتعامل بسوء الخُلق؟!

في الواقع حُسن الخُلق هو الذي یجلب السعادة للإنسان، صحیح إنّ  بعض الأمور تتطلب إستثناءً إستخدام الشدة والغلظة، لکن هذا لايندرج ضمن سوء الخلق، فليس من حسن الخلق أن يقف المظلوم مكتوف الأيدي أمام من ظلمه إن كانت لديه مساحة یستطیع من خلالها مواجهة ما يمكن مواجهته.

فمن الطبیعي أن یدافع الإنسان عن نفسه في مواجهة من یرید قتله ظلماً بغیر حق،‌ ویمتنع عن الدفاع عن نفسه بحجة أنه یتصرّف بحسن الخلق! حُسن الخلق لیس معناه دائما اللين والرفق، وإن کان دیدن حُسن الخلق هو اللين والرفق.

فالرسول الأكرم صلی الله عليه وآله في الحديث الشريف المار ذكره،  قد ابتدأ كلامه بعبارة (إِنَّمَا) وهي أداة حصر، ثم ربط هذه الأداة ببعثته الشريفة (بُعِثتُ)، ثم أردفها بإتمام مكارم الأخلاق (لِأُتَمِّمَ).

هذا النقاط الثلاثة مهمة جداً لبیان صفة الأخلاق الکاملة والتامّة، فالأخلاق الكريمة کانت موجودة في المجتمعات والأمم السابقة قبل بعثة النبي بنسبة قليلة. لکن مكارم الأخلاق لم تکن موجودة کاملة ولم تکن تامّة کما أصبحت بعد بعثة النبي، حتی جاء النبي صلی الله عليه وآله فتمّمها، والحصر بـ(إنما) هو حصر إضافي.

والحصر يعني عمدةُ ما بُعث به الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله من إتمام مكارم الأخلاق. ومكارم الأخلاق بحسب الحصر الإضافي صار سبباً إضافياً لبعثة النبي الأكرم صلی الله عليه وآله، فهي أهم ما بُعث به النبي إلى البشرية.

ولم ينقل عنه صلی الله عليه وآله أنه قال: إنما بعثت لأعلّم الناس الصلاة أو الحج أو ماشابه ذلك من الواجبات، مع أنه  قد بُعث لیتمّم كل هذه الأمور، بل قال (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ اَلْأَخْلاَقِ)، لأن الأخلاق عمدة ذلك كله.

کما إن الواجبات تکتمل إذا کانت مكارم أخلاق أيضاً تامّة، ولكن إن لم تكن الأخلاق تامة فإن الواجبات تبقی ناقصة.

وبالنتيجة،‌ فالعالم الديني المتحلّي بالأخلاق الحسنة الفاضلة  سيوفق إلی مراتب أعلی بالقياس مع الذي لایتمتّع بها أو من لايكون بمرتبته في الأخلاق الحسنة. وفي هذا المجال قصص كثيرة مذكورة وجميعنا إذا أمعن النظر ودقق من حوله سيجد مصاديق كثيرة للحديث الشريف التي یستحق ذکرها في هذا المجال.

سرّ الموفقية في الدنيا والآخرة

 (يُنقل أن شخصین کانا عديلان (زوجين لأختین)،‌ کانا يبيعان حصيلة التمر فأحدهما يبيع الدبس والآخر يبيع الخلّ (حصيلة التمر المائل إلى الحموضة)، فالذي کان يبيع الخل كانت معيشته أفضل من ذلك الذي يبيع الدبس، مع أن الدبس حلو المذاق ومرغوب عند الناس وکثیر الإستعمال.

ذات مرة جری حديث بين الأختين، فقالت زوجة من يبيع الدبس لزوجة من يبيع الخل، أنا زوجي يبیع التمر حلواً للناس وعيشتنا في ضنك، أما انتِ فزوجك يبيع التمر خلاً حامضاً للناس وعيشتكم جيدة وأفضل منّا، فما هو السبب في ذلك؟

فأجابت تلك التي يبيع زوجها خلاً  قائلةً: لأن زوجي يبيع الخل للناس بأخلاق حسنة وحلوة، وزوجك يبیع للناس الدبس الحلُو بأخلاق مُرّة حامضة، ولهذا فنحن في عيشة أفضل منكما).

أتذكر في أيام شبابي کنت أذهب إلى السوق لشراء بعض الحاجیات، فکنت أری رجلین كاسبين أحدهما سيء الخلق والآخر طیّب وبدرجة عالیة من الأخلاق، فكان الأخير يأتي كل صباح ببضاعة، وسرعان ما تنتهي بضاعته قبل الظهر وكانت بضاعته أضعاف بضاعة الكاسب سيء الخلق الذي يبعد عنه أمتار قليلة.

فالکاسب سيء‌ الخلق كان يجلس إلى الليل من دون أن یبیع بضاعته کاملة! ذلك لأنني لم أکن أرى أکثر من ثلاثة زبائن یدخلون دکانه لشراء البضاعة‌.

في‌ حین کنت أری محل الکاسب حسن الخلق مكتظاً بالزبائن، ولم أر الفارق بین الکاسبین إلاّ في التعامل مع الزبائن، فصاحب الخلق الحسن كان جيد التعامل مع الزبائن وترك لهم راحة الإختيار وکان يُقرض المستدين دون أن يعرفه، وكانت أرباحه أكثر بكثير من ذلك الذي لايجيد التعامل الحسن مع الآخرين.

کما أتذكّر أيضاً: أنني کنت أعرف رجلين عالمین أحدهما كانت أخلاقه أحسن من الآخر، فكان العالم الخلوق متأخر في دراسته عن ذلك العالم الآخر،‌ بینما کان العالم الآخر الأقلّ أخلاقاً له مرتبة علمیة أعلی وهو أكبر عمراً وأقدم مرتبة في الدراسة من العالم الخلوق، لقد رأیتهما مرات عدیدة وبالعشرات، فالذي كانت أخلاقه حسنة كان موفقاً أكثر بكثير من الثاني.

الأخلاق الحسنة هي سر الموفقية في الدنيا والآخرة كما يقول رسول الله صلی الله عليه وآله: (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَجْلِساً، أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً...)(2).

ویظهر من جمیع ذلك أن الأقرب لرسول الله صلی الله عليه وآله هو الشخص الذي له مرتبة أخلاقیة أرفع.

ویبدو أن حسن الخلق بحاجة إلی العزم، فمن يعزم أن يكون حسن الخلق مع الجميع فإنه يوفق في مجال عمله أكثر من غيره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)ميزان الحكمة، ج1 ص804 ح1111.

(2)بحار الأنوار، ج71 ص385 ح26.