LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: العمل الصالح
رمز 47714
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 8 ربيع الأول 1446 - 12 سبتمبر 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

العمل الصالح لنا والسيّئ علينا

قال الله تعالى في القران الحكيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)(1).

لقد منح الله تعالى الإنسان في الحياة الدنيا بفضله وکرمه إمكانات وقدرات وطاقات متنوّعة  منها أمور اختيارية كالمال الذي  يحصل عليه بالكسب والتجارة،‌ أو الحكم الذي يناله بجهود وطاقات دؤوبة، أو العلم الذي يکتسبه بالدراسة والتعلیم.

وهناك إمکانات أخری غير إختيارية كجمال البدن وقوّة الجسم وغیرها.

هذه الإمکانات التي يستفيد منها الإنسان في حیاته،‌ لو عمِل بها بشکل صحیح ستنفعه وتنفع مجتمعه في الدنيا والآخرة،‌ وهذا مايسمى بالعمل الصالح الذي يعود بالأجر والثواب على صاحبه.

وقد يستخدم المرء هذه الطاقات في المفاسد والمظالم فتعود عليه في الدنيا والآخرة بالخسران والندم، لأنها ستعود علییه بالخسارة أولاً وقبل غیره: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) فالعمل الصالح والسيء يعود أولاً على نفس الإنسان ولیس علی غیره.

كل إنسان في‌هذه الحیاة ـ سواء کان رجلاً أو مرأة، شاباً  أو فتاة، كبيراً أو في مقتبل العمر، عالماً أو جاهلاً، غنياً أو فقيراً ـ لدیه إمکانات وطاقات معینة‌ يستفيد منها في عمل الخير، أو  يستعملها في الشرّ، ‌وربّما يستعمل بعضها في الخير وبعضها في الشر!!

فالمقياس في کلّ ذلك (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا)، فإن إستخدم وإستفاد من كل طاقاته في الصلاح فهذا لنفسه، وإن إستعمل بعض منها للصلاح فهذا لنفسه أيضاً، وإن إستخدم طاقاته جمیعاً  فهذا على نفسه، لتسببها بالضّرر،‌ وإن إستخدم بعض منها في الفساد فهذا أيضاً على نفسه.

ویجري هذا القانون العام علی کل المجتمعات، ففي كل مجتمع وفي كل زمان وفي كل عائلة وعشيرة وقرية وريف، يوجد مجتمعات من القسمين أو الأقسام الثلاثة التي يستفاد من بعضها في الصلاح وبعضها في الفساد.

العياشي استخدم طاقاته للعمل الصالح:

هناك أمثلة كثيرة لطاقات وإمکانات يجدها الإنسان في أطرافه ليلاً ونهاراً، فقد سجلت کتب التوارخ هذه الأمثلة وذكرها القرآن الكريم وبیّنتها الأحاديث الشريفة، ولمن يريد أن يعتبر بها علیه أن يستفيد مما أتاه الله من طاقات في العمل الصالح، ولا يستعملها في الفساد والحرام.

ومن تلك الأمثلة، محمد بن مسعود العياشي الذي كان يسكن في بغداد في أيام الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) قبل ألف ومئتي سنة تقريباً.

فقد ذكروا في التاريخ أن هذا الرجل كان أبوه تاجراً، فلمّا مات أبوه ورَّثه  ثلاث مائة ألف دينار ذهب، وكل ثلاث مائة دينار ذهب يكون بوزن أكثر من كيلو غرام ذهب، وبناءً علی ذلك فقد ورث من أبیه أکثر من طن ذهب.

فذكروا بأن العیاشی صرف هذا الإرث الضخم في طریق العلم وتربیة العلماء، وإستعمل هذا المال في الترویج لعلوم أهل البيت (عليهم السلام) في العقائد والأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة.

وإستطاع العیاشي بهذه الإمکانات التي إمتلکها أن یتسبّب في تربیة مئات العلماء والمدرسين إما بنفسه أو عبر تلاميذه، وأن یتسبّب في تألیف مئات الکتب في خدمة العلم والعلماء، ولازالت إلى الآن وبعد مضي ألف ومئتي عام كتبه المتنوّعة تساهم في تربية العلماء في مدرسة العياشي (رضوان الله عليه)..

استخدموا طاقاتهم بسوء، فأضحت قصورهم خربات!

وفي المقابل هناك أمثلة ذكرها التأريخ عن قصور شیّدها المتوكل العباسي في سامراء لنفسه بأموال بيت مال المسلمین، فمن أین جاء بهذا المال؟ هل کان أبوه تاجراً کبیراً أو مزارعاً معروفاً لکي يجمع المال؟

لقد ذكروا أن أحد قصوره تمّ بناؤه بمبلغ کبیر يصل إلى ملايين الدنانیر الذهبیة، وقصر آخر یفوقه بالمبلغ، وقصور عدیدة أخری ورد إسمها في التأريخ.

وکما ذكروا أن تلك القصور كانت مركزاً للفساد والبذخ ومحلاً للتعذيب والقتل، فقد إنتشر فیها الفساد الأخلاقي وإمتلأت أروقة القصور بکاسات الخمر وأدوات الطرب والغانیات المطربات وبجمیع أنواع المعاصي والمحرّمات التي کانت معروفة آنذاك.

وذكروا أن المبالغ التي إمتلکها المتوکّل فاقت الخمسين طناً من الذهب، وهذه الإمکانیة الضخمة التي وقعت بيد المتوكل العباسي ظلماً وجوراً صرفها في إفساد نفسه وإفساد من حوله ومجتمعه، بل وصرفها في إفساد کلّ ما جرى منذ ذلك اليوم وسیجري إلى القرون المتتالية من بعده.

لکننا نری الیوم أن هذه الإمکانات قد تبدّدت والقصور زالت ولم یبق منها سوی أطلال خاویة، ولم یبق من مجموعة قصوره سوی البقعة الطاهرة في سامرّاء التي‌ تضم مدينة الإمام الهادي والإمام العسكري ومدينة غيبة الإمام المهدي المقدسة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد شمل الخراب جمیع قصوره سوی جزء واحد بقي منه وهو الموسوم بقصر العاشق لیکون دلیلاً علی فجوره وعبرة للناس ومصداقاً لقوله تعالی: (وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).

الكلٌ يُحاسَب، ولکن على قدر إمکاناته!

في مضمون الحديث الشريف عن الإمام الصادق صلوات الله عليه، أن أصحاب الإمکانات والقدرات رجالاً ونساء يُؤتى بهم يوم القيامة ليحاسبوا، فتری من صرف إمکاناته ونعمه الإلهية في غير موضعها، يعتذرون لله تعالى بأن ما أعطيتنا من إمکانات هو الذي أوقعنا في الفساد. حينها يأتي الله تعالى لهم بأمثلة لأفراد كانت لهم إمکانات وقدرات بمثل إمکاناتهم وقدراتهم لکنهم لم يقعوا في الفساد.

فمن جملة الأمثلة التي ذكرها الإمام الصادق علیه السلام في هذا المجال، ما جاء في الحديث الشريف أن المرأة التي استفادت سوءً من جمالها، تُحاسب يوم القيامة وتُسأل: لماذا قمت بذلك؟

فتقول: إلهي أعطيتني الحُسن والجمال، وهذا الجمال أوقعني في الفساد، فيؤتى بالسيدة مريم عليها السلام، ويقول: إن هذه أيضاً كان لها جمال، وجمالها كبير، فلا تبقى حجة لها ولا ذریعة.

ويؤتى أیضاً بالرجل الفاسد ويحاسب، فيقول: إلهي أعطيتني جمالاً فوقعت بالحرام، فيؤتى بنبي الله يوسف عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام، فيُقال: هذا أيضاً كان عنده جمال لكنه لم يقع في فعل الحرام والمعصیة.

وهکذا الحال في المصائب والإبتلاءات أیضاً: من فقر ومرض ومشاکل أخری تکون سبباً لفسادهم فتجرّهم إلیه، فإذا اعتذروا إلى الله تعالی، سوف يؤتى إليهم بنبي الله أيوب عليه السلام الذي أبتلي بأنواع الأمراض الصعبة، لکنه لم يقع في الفساد.

فالسؤال هنا، كل إنسان تقع بيده نعمة إختیاریة أو غیر إختیاریة،‌ هل يصرفها في الخير والصلاح أم يصرفها في الشرّ والفساد؟  کالعلم مثلاً هل یصرفه في الخیر أم الشرّ؟ 

هناك علماء صلحاء، وهناك علماء سوء، كما ورد في الروايات الشریفة‌، فکلاهما له القدرة والکفاءة العلمیة.

والمال أیضاً، فهناك من له القدرة المالیة، وهناك منه له القدرة السلطویة علی مستویات مختلفة کالریف والمدینة والدولة، لینظر المرء إلی نفسه، لیعرف هل إستفاد من قدراته في الضلال والفساد كبني أمية وبني العباس؟ أم يستفيد منها في البرّ والخير کما إستفاد منها أهل البیت ومحبوهم کسلمان في المدائن الذي كان حاكماً فلم يسجل عليه ظلم قدر أنملة، ولم يُسجّل عليه استغلال سوء واحد لقدراته وإمکاناته قلیلة کانت أم کثیرة، فالإنسان قادر علی ذلك وهذه القدرة التي منحها الله تعالى لكل إنسان تكون حجة له علی الإستفادة منها في الخير، وتكون حجة عليه إن استعملها في الفساد.

استفد من طاقتك في العمل الصالح:

على كل الإنسان بما يملكه من مال وعلم وجمال وذكاء وفهم، أن يحاول الإستفادة ‌من هذه النِعم والطاقات في عمل الخير والصلاح، لیس فقط لنفسه بل ولمجتمعه أیضاً، وأن لايستفيد من هذه النّعم والإمکانات في الفساد أو الإفساد وإن كان جزءاً صغیراً، کأن  یخلط بین العمل الصالح والعمل السيء، فيستفيد من ماله في الخير أحياناً ویستفید منه في الشرّ (والعياذ بالله) أحیاناً أخری.

فالإنسان قادر على ذلك مع کلّ الصعوبات التي تواجهه، فإذا لم یکن الإنسان متوجهاً لذلك، سیکون ذلك سبباً لضیاع  دنياه وآخرته بل وضیاع دنيا وآخرة غیره من الناس.

ـــــــــــــــــــــــ

(1)سورة فصّلت: 46.