سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
التبلیغ
قال تعالی في قرآنه الحکیم: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)(1).
أراد الله تعالی أن یکون التبلیغ وخاصّة في الإسلام، وظیفةً دینیة یؤدّیها الإنسان في مراحل مختلفة من حیاته، فإذا بلّغ کما هو مطلوب منه، بارك له في عمله، ومنحه الأثر الکبیر والنتیجة الواسعة والأثار الشاملة، جزاءً لعمله التبلیغي الصحیح.
وقد ورد هذا المعنی للتبلیغ في خطاب الله تعالی لأشرف أنبیائه ورسله (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)، لیبیّن له أن التبلیغ هو أن تُوصِل کلام الحقّ إلی الناس وأن تقدّم لهم المطالب الصحیحة، بغض النظر عن النتائج والآثار التي تترتّب علیها، لأن أي تأثیر ینتج عن التبلیغ ـ سواء کان إیجابیاً أو سلبیاً، کثیراً أو قلیلاً ـ فهو یرتبط بالله تعالی وبمشیئته (إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
فالله تبارك وتعالی فيما یصنعه هو سبحانه وتعالی عبر ملائکته أو ما یجعله تکویناً للبشر، یبتدأ الأمور غالباً بصناعة صغیرة، فإذا رُوعيت فیها الشروط المناسبة صارت کبیرة. ویقال بالتعبیر الدّارج (یبدأ من الصفر وینتهي إلی الألف) بل والملایین وربما الملیارات.
ومثاله، نواة التمر الواحدة، کم هو حجمها؟ کم هو وزنها؟
هذه النواة مع صغرها إذا دُسّت في التراب بالأسلوب الصحیح وروعيت فیها قوانین الزراعة ستتحول في المستقبل إلی نخلة باسقة مثمرة ربما یصل حجمها ووزنها أحیاناً إلی ملیارات أضعاف وزن وحجم النواة الواحدة.
وهذه السنّة الإلهیة تجري غالباً في الإنسان، فهي سنّة تکوینیة یبتدأ بها الإنسان خلقه من النطفة، ثم یبلغ وزنه مئة کیلو غرام، أو أکثر أو أقل.
وتجري هذه السُنّة أیضاً في النُطفة، فهي في بدایتها جزءً من ملایین الأجزاء التي یتشکّل منها الإنسان بحجمه الطبیعي. في حین بإمکان الله أن یخلق الإنسان سواء کان رجلاً أو إمرأة مرّة واحدة، کما خلق آدم وحوّاء علیهما السلام مرّة واحدة وکما خلق بنتین: إحداهما زوجة هابیل والأخری زوجة قابیل.
نعم، بإمکان الله أن یقوم بالخلق مرّة واحدة لأنه خلق الشمس والقمر مرّة واحدة، ولم یجعلهما نواة صغیرة حتی تنمو وتکبر، وهکذا في بقیة الأفلاك والنجوم والمنظومات الشمسیة والمجرّات، خلقها الله مرّة واحدة بقدرته المطلقة وهو قادر علی خلق کلّ شيء، وکلّ مایطلق علیه (شيء) فهو متعلّق بقدرة الله سبحانه وتعالی.
من ذلك نفهم، أن الله تعالی یستطیع خلق الإنسان کما الکواکب والمجرّات مرّة واحدة، لکنه یتدرّج في خلق الإنسان، فیخلقه نطفة، ویخلق النخلة من النواة، وهکذا..
والتبلیغ لما أمر به الله سبحانه وتعالی یشبه هذه الأمور فیبتدأ صغیراً، ثم ینتهي کبیراً وکثیرا..
الرسول بدأ دعوته بالقلیل:
في بدایة البعثة النبویة الشریفة، أقام النبي (صلی الله علیه وآله) صلاة الجماعة بشکلها البسیط، فکانت صلاته عبارة عن إمام یؤمّ شخصین فقط، رجل وإمرأة. أما الرجل فهو أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) وکان له من العمر عشر سنوات، وأما المرأة فهي السیدة خدیجة (رضوان الله علیها).
ثم واصل النبي صلاته في المسجد الحرام بهذا العدد القلیل لفترة من الزمن، حیث کان أمیر المؤمنین عن یمینه والسیدة خدیجة عن یساره صلوات الله علیهم أجمعین. وکان المشرکون کلّما مرّوا به إستهزؤوا به وبصلاته.
لکن النبي بإصراره وثباته ودوامه علی الصلاة قاوم ذلك الإستهزاء، فصارت الصلاة الجماعة تقام الیوم بملایین الناس، والفضل یعود إلی إقامة تلك الصلاة الجماعة التي بدأت صغیرة بثلاث أشخاص!
القناعة بالقلیل أساس التوفیق للکثیر:
قرأت قبل سنوات علی غلاف إحدی المجلات العالمیة التي تُطبع بستّ وثلاثین ملیون نسخة في الشهر الواحد، وتصدر بستّ وعشرین لغة، قرأت مقالة جاء فیها، أن هذه المجلة بدأت بلغة واحدة وبخمسمئة نسخة، وذکروا أن عدد صفحاتها کانت أقل مما هي علیه الآن.
فالإنسان إذا أصرّ علی العمل ولم یستهن بقلّته أو بحجمه الصغیر وواصل وداوم وثابر وتحمّل المشاکل، سوف یوفّق توفیقاً عظیماً في حیاته، والعظماء هکذا یکونون عظماء.
أحد کبار المراجع الماضین (رضوان الله علیه) نقل لي، أنه جاءه أشخاص من مدینة ما، فسألهم: هل لدیکم حسینیة في مدینتکم؟ أجابوه: کلاّ. قال لهم: لماذا؟! قالوا: لأننا لانملك المال، ولانستطیع شراء الأرض أو بنائها، ومثل هذه الأمور تحتاج إلی أموال کثیرة.
فأخرج ذلك المرجع مبلغاً بسیطاً لا یصل إلی دولار، وقال لهم: هذا هو المال!
فتبسّم الأشخاص، وقالوا مستغربین: وهل یصنع هذا المال البسیط حسینیة؟!
فأجابهم ذلك المرجع الکبیر: نعم إبدءوا بهذا القلیل وواصلوا وإهتمّوا وستکون لکم حسینیة.
قبل سنتین زارني أحد القائمین علی تلك الحسینیة، وقال لي: قمنا فعلاً بشراء أرض وبنینا علیها حسینیة من ذلك المال البسیط، حیث جمعنا أموال وتبرعات من أهل الخیر، والیوم ببرکة ذلك المال صار لنا حسینیة تساوي ملیارات.
لنسأل: من أین جاءت هذه الملیارات؟ وکیف جُمعت؟
الجواب: کلّ شيء یبتدأ بالقلیل، لکن الإنسان إذا واصل واستمرّ ولم یتعب ولم ییأس، کَبُرَ عمله ونما.
من هذا المنطلق، علینا أن نستفید من الإنفتاح الموجود نسبیّآً في هذا العالم لنبلّغ الثقافة وفکر أهل البیت علیهم السلام الذي هو الفکر الأصیل والثقافة الصحیحة للإسلام. إن هذا العالم الواسع المترامي الأطراف ومع وجود الحریات النسبیّة في کثیر من نقاطه، یمکن لکلّ واحد من المؤمنین والمؤمنات أن یبدأ فیه بالقلیل من العمل التبلیغي لیُبلّغ لفکر أهل البیت علیهم السلام ولیتمکّن من إیصال ثقافة أهل البیت إلی العالم أجمع.
دور الفضائیات في التبلیغ لفکر أهل البیت علیهم السلام:
ورد عن الإمام الرضا علیه السلام أنه قال: (اَلنَّاسَ، لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلاَمِنَا لاَتَّبَعُونَا)(2).
نحن نعلم أن کلام أهل البیت علیهم السلام کلّه محاسن، لکن المهم الإبلاغ بذلك الکلام وإیصاله إلی الناس، فوصیّتي لجمیع الذین لدیهم حسینیات ومراکز ثقافیة ومؤسسات خیریة والذین یقدّمون خدمات حوزویة وأخری أکادیمیة وعلمیّة، في مختلف المجالات ولاسیّما الفضائیات التي تقوم بنشر فکر أهل البیت علیهم السلام إلی العالم، أوصیهم جمیعاً بإبتکار طرق وأسالیب مختلفة وصحیحة ومشروعة لبلوغ ذلك الهدف، فإذا أردنا ایصال فکر أهل البیت علیهم السلام إلی العالم الذي یبلغ ملیارات البشر، فنحن بحاجة إلی ألوف الفضائیات وإلی مئات اللغات ومئات الأسالیب والطرق المتنوعة التي یقرّها دین الله الإسلام، فقد قال الله تعالی في کتابه الکریم: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)(3).
فدین الله تعالی هو الإسلام الذي یقرّ بتلك الأسالیب، وعلیه فإن من وظیفة الکلّ أو لنقُل الکثیر من الناس أن یقوموا بذلك التبلیغ. ولعلّ الکثیر من الناس لایمکنهم القیام بذلك مرّة واحدة، ولکن یمکنهم التدرّج شیئاً فشیئاً.
ومثالهم هو الشخص الذي یمتلك نواة تمرة واحدة، بإمکانه أن یصنع منها نخلة باسقة تعطي ملایین الأطنان من التمر عبر عشرات السنوات، شرط أن یستفید منها إستفادة صحیحة وأن یجدّ ویثابر ویواصل العمل، وهذا الأمر یمکن أن یتحقّق للجمیع شیئاً فشیئاً.
إنّ الأعمال العظیمة تبدأ في الدنیا صغیرة ومتواضعة، ولو نظرنا في هذه الدنیا إلی ماحولنا لوجدنا أن معظم الأعمال تبدأ من الصفر، وربّما من تحت الصفر کما یعبّر البعض، لکنها مع المواصلة والمثابرة تنمو وتکبر وتصبح سبباً للنجاح والتوفیق.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)سورة الرعد: 40.
(2)بحار الأنوار، ج2 ص30.
(3)سورة آل عمران: 19.