سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
العقل يدعو للفضيلة والشهوات تدعو للرذيلة
قال الله تعالى في القرآن الحكيم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(1).
هذه الآية المبارکة تشیر إلی الأجيال السابقة الذین قضوا ورحلوا عنّا فجعل الله الأجیال القادمة خلائف للأجيال السابقة.
فنحن ما دُمنا علی قید الحیاة خلفاً لمن سبقنا والله ینظر إلی أعمالنا، كيف نعمل؟
اللام الواردة في كلمة (لِنَنْظُرَ) هي لام التعليل (لام العاقبة) و (لام الهدف) كيفما يسميها الإنسان، فالأجيال كما يتبيّن من الآية الكريمة أنهم منقسمون إلى أخيار وأشرار بمعنى أن بعضهم عاشوا في الدنيا أخياراً وبعضهم عاشوا أشراراً ویأتي الدور لكم الآن أيها البشر لننظر كيف تعملون؟ من منکم يعمل الخير؟ ومن منکم يعمل الشر؟ من منکم يعمل الفضيلة؟ ومن منکم يعمل الرذيلة؟ من يستفيد من عقله الذي يدعو إلی الخير والفضيلة؟ ومن يتبع شهواته المحرّمة التي تدعو إلى الرذيلة والمظالم؟
فالله تعالى خلق الجنّة والنار؛ الجنة خلقها للأخيار، والنار خلقها للأشرار.
وقد ورد هذا المعنی في موارد عدة من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، بأن الله تعالی خلق البشر في هذه الدنيا للإختبار، وأودع في باطنهم ما يدعوهم إلى الخير وهو العقل، وبعث لهم أنبياء ورسلاً وأئمة معصومين صلوات الله عليهم أجمعين ليدعوا الناس إلى الخير، وفي المقابل جعل فیه شهوات إذا لم یتمّ السیطرة علیها فهي تدعو إلى الشر، وخیّر الإنسان بین الخیر والشرّ، لينكشف من يعمل الخير طول حياته فينال الجنة؟ ومن يعمل الشرّ طول حياته فينال الجحيم؟ ولدینا في كل زمان ومكان أمثلة كثيرة لكلا النوعین.
أبو لهب قريب النسب كثير العداوة
في زمن رسول الله صلوات الله عليه وآله مثالان لهذين النوعین من البشر أحدهما أبو لهب والثاني أبو ذر الغفاري.
لقد کان أبو لهب من أقرب الناس نسباً إلى رسول الله صلوات الله عليه وآله وهو عمّه (أخُ أبيه) وهو ابن (عبد المطلب) ذلك الرجل العظيم وهو (أخُ أبي طالب) وعاش مع رسول الله وشهِد أخلاقه وفضائله، ولكن مع ذلك كان یعادي رسول الله ویکنّ له العداء بالسبّ والشتم والإيذاء، فکان مصداقاً لقول الله تعالى: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ومع أن رسول الله صلوات الله عليه وآله کان قریبه إلاّ أن أبا لهب وزوجته وإبنه كانت حياتهم مليئة بالعداوة لرسول الله صلوات الله عليه وآله.
ومنذ أن یوم أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله نبوّته في المشركين وقال لهم: (قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ تُفْلِحُوا)(2)نصبوا له العداء وراحوا يألبون الناس ضدّه، بل وكانوا يؤذون الذين آمنوا برسول الله من الذين أسلموا، والتأريخ مليء بما صنعته هذه العائلة من مآثم ورذائل ما يندى لها جبين الإنسان.
وثمّة شواهد وردت في الروايات الشريفة وفي تفاسير القرآن الكريم، ومنها ماورد في تفسير سورة (المَسد)، حیث إن ولد أبي لهب جاء ذات مرّة إلى رسول الله وبصق في وجهه الطاهر وسبه وشتمه ولم يحرك رسول الله صلوات الله عليه ضدهم أي ساكن.
لقد کان رسول الله قمّة في الأخلاق والفضیلة ولذا تصرّف بلطف وتسامح مع عائلة عمّه، وتعلم الأخلاق من خالقه الكريم كما في الحديث الشريف (إِنَّ اَللَّهَ أَدَّبَ نَبِيَّهُ عَلَى أَدَبِهِ)(3)، إنّ أدب الله تعالى منتشر في وجود رسوله صلوات الله عليه وآله، والقرآن الكريم يقول: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)(4).
فالسيئات التي كانت تصدر يومياً من عائلة أبي لهب وولده وزوجته ضد رسول الله وعلى مر التأريخ لم يُنقل مرّة أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقابلهم بكلمات نابیة تشبه كلماتهم، مع أنه يجوز ردّ الإساءة بالإساءة، وقد صرح الله تعالى بذلك في القرآن الكريم (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(5).
لکن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستفد من هذه الرخصة الإلهیة إطلاقاً في مواجهة من آذوه من الغرباء فكيف بالأقرباء، وكلّما زاد الأذى منهم على رسول الله لم يصدر منه سوى الإحسان، فهو مصداق لقوله تعالی: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)؟
ولشدّة صبر النبي نزلت سورة كاملة بهذه العائلة الظالمة، حیث إفتتح الله تعالى آياتها بكلمة (تَبَّتْ)، (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) .
فالتّب بمعنى القطع أو الإنفصال أو البُعد، (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) فالمال الذي عنده لم يغنه شیئاً عن الحقّ، ثم يقول الله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(6) حيث كانت إمرأة أبي لهب تحمل الحطب ليلاً وتضعه في طريق رسول الله صلى الله عليه وآله ليتعثّر به.
أبو ذر غريب النسب صادق اللهجة
کان أبو ذر (رضوان الله تعالى عليه) رجلاً غریب النسب عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فرسول الله کان ینتمي إلی قبيلة قريش ومن بني هاشم، التي ینتسب إلیها أبو لهب أیضاً، بینما کان أبو ذر رجلاً قرويّاً من بني غفار لایحظی بشرف قبیلة بني هاشم ولا ینتمي إلی قريش.
ومع الفارق الکبیر في النسب والقبیلة بین أبي ذرّ وأبي لهب، إلاّ أنه كان يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله ويستمع إلی حدیثه، فصار ذلك سبباً لإسلام أبي ذرّ وإیمانه.
وفي المقابل کم سمع أبو لهب من آیات القرآن الكريم وكم سمع من أحادیث رسول الله صلى الله عليه وآله، لكن مع ذلك كله لم تؤثر هذه الآیات والمواعظ في نفسه إیجاباً قید أنملة.
لكن أبو ذر جلس مع رسول الله واستمع إلى كلامه فتغيير من مشرك يعبد الأصنام إلى رجل قمة في الفضيلة والخلق وقمة في الإنسانية وقمة في الدفاع عن المظلوم، فقد كان أبو ذرّ يدافع عن رسول صلى الله عليه وآله ویلازمه حتى شهادته بل وبعد شهادته أیضاً، فقد إستمرّ علی النهج الذي أوصی به الرسول لأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما)، وتحمل المصائب الكبيرة لتمسّکه بأمير المؤمنين (عليه السلام) كما أمره رسول الله صلى الله عليه وآله عندما قال له: (إذا سَلك الناس كلهم وادياً وسلك عليّ وادياً فاسلك وادي عليّ وتخلّ عن الناس)(7).
إلتزم أبو ذر بهذه الوصیّة حتى بلغ ما بلغ من التقوی والإیمان، ولم یتخلّ عن أمیر المؤمنین في أحلك الظروف، وأبو ذرّ بالنسبة لرسول الله شخصیّة ممتحنة فقد قال فیه: (مَا أَقَلَّتِ اَلْغَبْرَاءُ وَلاَ أَظَلَّتِ اَلْخَضْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ)(8).
الخضراء هي (السماوات) والغبراء هي (الأرض) بمعنى كل من تحت السماء وكل من على وجه الأرض ليس هناك أصدق من أبي ذر.
ذكر لنا التأريخ في ليلة المبيت وهي الليلة التي إجتمع فيها مجموعة من زعماء قريش وزعماء القبائل الأخرى لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وانتظروا حتى ينفلق الفجر ويحلّ الصباح فيهجموا على رسول الله صلى الله عليه وآله ويقطعوه إرباً إرباً، والله تعالى أمر نبيه بالهجرة في تلك الليلة وأن يجعل علی فراشه وصيّه أمير المؤمنين علياً عليه السلام.
وبقي علي علیه السلام نائماً في فراش النبي إلی أن هجم هؤلاء القوم لقتل رسول الله، ولذا تسمى هذه الليلة بليلة المبيت، فهي لیلة مبيت عليّ صلوات الله عليه علی فراش النبي صلوات الله عليه وآله لیقیه بنفسه.
وأما أبو ذر فقد حمل رسول الله في رداءه ووضعه على عاتقه وخرج به من بين هؤلاء القوم.
فقالوا له: ماذا حملت معك؟
قال: محمداً!!
فضحكوا، وقالوا: إن أبا ذر يمزح معنا فكيف يخرج محمد من بيننا وهو يعلم أننا نريد قتله؟!
وکانت إشارة النبي إلی صدق أبي ذر، لأنه حتی في هذا المكان الحرج قد صدق في کلامه ولم یستعمل التوریة.
ولذا ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (مَا أَقَلَّتِ اَلْغَبْرَاءُ وَلاَ أَظَلَّتِ اَلْخَضْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ) قالها في هذه المناسبة.
وفي الحديث الشريف عندما خرج رسول الله في رداء أبي ذر وكان القتلة موجودين حمل رسول الله في يده حفنة من التراب ورماها على وجوههم وقال: (شاهت الوجوه) فلم يروه ولم يصدقوا أن رسول الله يخرج من بينهم في هذا الوقت الحساس.
وأبو ذر رجل غريب ولا نسب يربطه برسول الله صلى الله عليه وآله ولكنه يؤمن برسول الله ويلتزم بكلامه حتى بعد إستشهاده، فمات جوعاً في هذا المجال كما هو مذكور في التأريخ، بسبب دفاعه عن أمير المؤمنين عليه السلام وإلتزامه بكلام رسول الله صلى الله عليه وآله بینما أبو لهب عمّ النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله لم یکن کذلك: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)...
واظبوا على أعمالكم في الخير والفضيلة
نحن اليوم نعیش علی وجه هذا الکوکب المسمّی بالأرض خلفاً للأجيال السابقة، والله تعالى ينظر ما نحن عاملون به، من رجال ونساء وعلماء ومثقفین وکسبة وشباب وكبار، فنحن جمیعاً في هذه الدنیا في مرأی الله تعالی: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
تأريخنا حافل بما قسم الله تعالى لنا في هذه الحياة من النعم والمشاکل والإبتلاءات، والهدف هو كيف نتعامل معها في هذه الحياة: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، ولأننا نعیش الیوم علی الأرض فالدور دورنا واليوم یومنا نحن، والحکم لحكوماتنا الموجودة الآن سواء کانت إسلامية أو غير إسلامية، لینظر الله إلی تصرّف الحكومات مع رعیتهم والتجار مع أموالهم، ولینظر إلی الرجال والنساء كيف يتصرفون مع مامنحهم الله من طاقات وإمكانات؟ وکذلك العشائر كيف تتصرّف مع نظرائها والأديان كيف تتصرف مع بعضها؟
فيلزم علينا أن نكون مواظبين في أعمالنا حتى تؤدي بنا إلى ماخلق الله تعالى من النعيم في الجنة للبشر المطيعین، ونتجنب ما خلق الله تعالى للبشر بالنسبة للعاصین والظالمین.
ــــــــــــــــــــــــ
(1)سورة یونس: 14.
(2)بحار الأنوار، ج18 ص202.
(3)بصائر الدرجات للصفار القمي ج2: ص228 /الرواية الحجال بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام: قَالَ: إِنَّ اَللَّهَ أَدَّبَ نَبِيَّهُ عَلَى أَدَبِهِ فَلَمَّا اِنْتَهَى بِهِ إِلَى مَا أَرَادَ قَالَ لَهُ: (إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ـ سورة القلم: 4 ـ إلى آخر الرواية....
(4)سورة المؤمنون: 96.
(5)سورة البقرة: 194.
(6)سورة المسد.
(7) بشارة المصطفى ص178 / الرواية (....ثم قال (صلى الله عليه وآله): يَاعَمَّارُ! إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي فِي أُمَّتِي هَنَاةٌ (الداهية)، حَتَّى يَخْتَلِفَ اَلسَّيْفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَحَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَحَتَّى يَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا اَلْأَصْلَعِ عَنْ يَمِينِي ـ يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ـ فَإِنْ سَلَكَ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِياً وَسَلَكَ عَلِيٌّ وَادِياً، فَاسْلُكْ وَادِيَ عَلِيٍّ وَخَلِّ عَنِ اَلنَّاسِ، يَاعَمَّارُ! إِنَّ عَلِيّاً لاَ يَرُدُّكَ عَنْ هُدًى وَللاَ يَدُلُّكَ عَلَى رَدًى، يَاعَمَّارُ! طَاعَةُ عَلِيٍّ طَاعَتِي وَطَاعَتِي طَاعَةُ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
(8)تفسير فرات: ص155 نقلاً عن البحار مجلد 35 ص323، الأمالي للطوسي، ج1 ص53.