سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في القرآن الحكيم: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا). (1)
طاقة جبّارة ضخمة
النفس طاقة عظيمة، خلقها الله سبحانه وتعالى وجعلها في اختيار الإنسان، وألهم الإنسان فجور هذه النفس وشرّها، وألهم تعالى هذه النفس تقواها وخيرها، وجعل ذلك في اختيار الإنسان. فالإنسان هو الذي يختار التقوى أو الفجور والعياذ بالله. فالله تعالى هو الذي ألهم التقوى وأمر به كما في أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وألهم تعالى الفجور ونهى عنها.
إنّ طاقة النفس، وهي الطاقة الجبّارة الضخمة، بل ومن أضخم الطاقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، قد تكون سبباً لإنسان يسمو ويسمو ويسمو، ويؤسّس تاريخاً صالحاً وتاريخاً فضيلاً، وتاريخاً مليئاً بالخير وبالراحة وبكل ما هو سعادة الدنيا والآخرة، بعد مرتبة الأنبياء والأولياء من المعصومين عليهم الصلاة والسلام. وأبو ذر مثال لهذه النفس.
من ثمار النفس التقيّة
شخص يكون بسبب هذه النفس مثل أبي ذر، يأتي إلى جبل عامل، ويبقى فيها فترى قليلة، ربما قرابة سنتين فقط، مع انعدام كل الإمكانيات المادية والأمنية له، ومع ذلك، ومع النفس التي ألهمت التقوى، واتخّذت التقوى طريقاً لها، ومن جبل عامل، أسّس أبو ذر تاريخاً حافلاً بالمكرمات. ونتيجته ذلك التاريخ، الألوف من علمائنا الأبرار رضوان الله عليهم، ونتيجة الألوف من العلماء هي هداية الملايين وعشرات ومئات الملايين من الناس في طول التاريخ وإلى هذا اليوم وما بعده. وأحد أولئك العلماء الأبرار هو الشيخ الحرّ العاملي رضوان الله عليه الذي لايزال ومنذ قرون، تنير كتبه في الحديث ومجموعاته في أحاديث أهل البيت صلوات الله عليهم، تنير الدرب لكثيرين والكثيرين. ومن أولئك الشيخ البهائي رضوان الله عليه، والسيّد عبد الحسين شرف الدين، وقبلهم الشهيد الأول والشهيد الثاني، وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم. فهكذا تكون النفس التقيّة.
النفس الفاجرة
في المقابل، هذه النفس وجدت في شخص أمثال معاوية بن أبي سفيان، الذي ملأ التاريخ فساداً وظلماً وفجوراً، من يومه وإلى هذا اليوم وما بعده. وأيّة فجور تلك التي كانت نتيجة لنفس معاوية بن أبي سفيان؟! فمعاوية ومن خلال هذه النفس، أسّس فجوراً في التاريخ، فغيّر التاريخ من الأبيض إلى الأسود، ومن الناصع إلى ما أدّى لكثير من الموبقات والآثام.
من سيّئات معاوية بن أبي سفيان، أنّه أمر بسبّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، عشرات السنين ومن على ألوف المنابر، في خطب الجمعة، في كل البلاد الإسلامية تقريباً. فعشرات الألوف من المنابر، وخلال عشرات السنين كانت تسبّ الإمام علي صلوات الله عليه الذي ورد متواتراً بحقّه عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: (مَن سبَّ عليًّا فقد سبَّني، ومَن سبَّني فقد سبَّ اللهَ).(2)
قد تسمو النفس فتكون مثل أبي ذر، والألوف من أمثال أبي ذر في التاريخ، على اختلاف المراتب والدرجات. وقد تكون هذه النفس مثل معاوية والألوف من أمثاله في التاريخ، وعلى اختلاف في المراتب والدرجات أيضاً.
من نماذج سمو النفس
هكذا مثل الحر بن يزيد الرياحي، الذي إذا لم يتب في يوم عاشوراء ولم يقبل الإمام الحسين صلوات الله عليه توبته، لكان من الأشقياء، أمثال ابن زياد وابن سعد، ولكن هذه النفس، وبإلهام التقوى، غيّرت الحرّ من الأشقياء إلى واحد من شهداء الطفّ، ومن الشهداء الذي يسلّم عليهم كل يوم، الألوف وعشرات الألوف وربما الملايين من الناس، من الذين يزورون الإمام الحسين صلوات الله عليه، ثم يزورون الشهداء ويسلّمون عليهم من قريب أو من بعيد.
من شرار النفوس
كذلك، قد يكون الشخص مثل عبد الرحمن بن ملجم الذي ورد في التاريخ أنّه كان مع الإمام علي صلوات الله عليه إلى صفين وفي صفين، ثم انحرف، وقد حرّفته نفسه. وورد في التاريخ، أنّ ابن ملجم جاء ذات مرّة إلى الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، يوم كان مع الإمام في الظاهر، وقال للإمام إنّي أحبّك، وأقسم ثلاث مرّات على ذلك، والإمام يعرض عنه. وهذا الشخص انقلب، فصار قاتل أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وصار أحد الأربعة الذين هم شرار خلق الله. فما الذي صنع الحرّ بن يزيد الرياحي، حيث هكذا سمى السمو الرفيع؟ ومن صنع ابن ملجم ومن صنع النفس التي كانت فيه؟
الإنسان هو المسؤول
إنّ الذي صنع تلك النفس، هي النفس الموجودة في كل واحد من البشر، التي أودعها الله سبحانه وتعالى كل إنسان. والإنسان هو الذي يختار النفس، بتهيئة المقدّمات، بالأسباب وبالنتائج وبالتأمّل. والإنسان هو الذي، وبيده، يجعل من نفسه، نفساً تستفيد من التقوى، فيسمو ويسمو دنيا وآخرة، أو يجعل من نفسه نفساً تتبع الشهوات والفجور، ويكون مثل أولئك الذين سوّدوا وجه التاريخ، في الماضي وإلى هذا اليوم.
إنّ المجازر الرهيبة في العالم كلّه وفي العالم الإسلامي بالخصوص، والفجائع الغريبة، والقتل الفضيع للأبرياء والنساء والأطفال، هو نتيجة النفس. وهذه النفس موجودة في كل إنسان، فعلى الإنسان أن يجعل نفسه، نفساً خيّرة وتقيّة، ويستفيد منها، حتى ينتفع هو بها، وينتفع بها غيره، اليوم وغداً. وهذا يرجع إلى اختيار الإنسان نفسه.
علماً إنّ الإنسان الذي يعيش في جوّ مملوءاً بالإيمان والتقوى، من الممكن، والعياذ بالله، أن تتحوّل نفسه عن الإيمان والتقوى، إلى نفس الفجور. وهكذا بالعكس، وفي التاريخ أمثلة كثيرة. فقد يعيش الشخص في أجواء فجور، ولكن يربّي نفسه، فتكون النفس بالتربية وبنتيجتها، نفس التقوى، ونفس تنتج الصلاح والخير والتقوى، لصاحبها وللآخرين أيضاً، وهذا بيد الإنسان نفسه.
لنفس تقيّة خيّرة
إنّ صناعة النفس الخيّرة ونفس التقوى، تحتاج، قبل كل شيء إلى التوجّه لله سبحانه وتعالى، وإلى الدعاء، (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) (3)، وكذلك تحتاج إلى العزم، كما قال القرآن الكريم أيضاً، وتحتاج إلى السعي والمثابرة، حتى تكون نفسه، نفساً تقيّة، ينتفع بها هو، وينتفع بها غيره.
أسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لذلك. وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــ
سورة الشمس: الآيتان 7و8.
أخرجه الحاكم في مستدركه (ج3/121) والبيهقي والنسائي في الخصائص وأحمد وغيرهم بأسانيد مختلفة وألفاظ متعدّدة.
سورة الفرقان: الآية 77.