شبكة النبأ: هناك ركائز للعدل يستند إليها حتى تستقيم الأمور، وتستمر الحياة ونبضها اليومي متصاعداً ومتقدّماً نحو الأفضل، ولعل العفو من ركائز العدل لاسيما إذا كان ينطلق من موقع قوة وتبصّر وتسامح مع من يستحق ذلك بطبيعة الحال، (فالعفو عند المقدرة) من أهم سمات العدل، وكلنا قرأنا أو سمعنا كيف تعامل قائد الدولة الإسلامية النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله, مع قريش وأعداء الإسلام حين أطلق قولته الشهيرة (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكذلك ما فعله الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام مع القاتل المجرم بن ملجم، حيث أمر بعدم ضربه طالما كان الإمام عليه السلام على قيد الحياة.
هكذا يمكن للعفو أن يتقدّم بالإنسان لكي يسمو بنفسه على الصغائر، ولكن طبيعة الحياة تتطلّب عملية القصاص، إذ يقول تعالى في محكم كتابه الكريم (ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب)، وعندما تسري القوانين الرادعة على الجميع، دونما تفريق على أساس العرق أو الدين أو المنطقة أو الفكر أو التحزّب أو الوجاهة والمال، فإن الاستقرار سينتشر في عموم طبقات المجتمع ويتبع ذلك استقرار وازدهار للدولة، ومع ذلك هناك حالات تتطلب العفو، بمعنى العقوبة لا تصلح أن تكون الحل دائماً، درءً لخطر الضغينة وتراكم الأحقاد ومن ثم التأثير على الدولة واستقرارها، أيّ لابدّ من انتهاج سياسة عفو حكيمة حتى في دولة العدالة.
العفو في دولة العدل
لابد اننا على اطلاع تام بكيفية نشوء الدولة الإسلامية، وعدد الجهات والفئات المعادية لها، إذ بعد نضال شاق وطويل وقاس خاضه المسلمون ضد أعداء الحرية والفكر القويم، كان لابد من انتهاج سياسة العفو في دولة العدالة الإسلامية.
وهذه هي سياسة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في بناء دولة العدالة، لذلك عندما تم دحر قريش وسيطرة المسلمين على مكّة، كان العفو حاضراً عند قائد الدولة الإسلامية، في هذا الصدد يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام): (ما أعظم عفو رسول الله صلي الله عليه وآله عن الأعداء؟ فقد مثّل النبي صلي الله عليه وآله عفو الإسلام خير تمثيل. وأفهم الجميع أن الإسلام جاء يريد الخير للجميع، لأوليائه وأعدائه جميعاً، وليس ديناً يحقد على أحد، وليست بعض ممارساته الصارمة نابعة عن القسوة، أو الحنق، وإنما هي نابعة عن روح تعميم العدالة على الجميع). ويضيف سماحته قائلاً في الكتاب نفسه: (كان النبي صلي الله عليه وآله قد جلس ـ في بعض غزواته ـ في ظل شجرة وحده بعيداً عن أصحابه، بعدما حال السيل بينه صلي الله عليه وآله وبينهم. فجاءه غورث بن الحارث ووقف على النبي صلي الله عليه وآله مصلتاً سيفه رافعاً يده على النبي صلي الله عليه وآله وصاح به: من يمنعك منّي يامحمّد؟ فقال النبي صلي الله عليه وآله: الله. فسقط السيف من يده، فبدر النبي صلي الله عليه وآله إلى السيف وأخذه ورفعه على غورث قائلاً له: يا غورث من يمنعك منّي الآن؟ فقال: عفوك، وكن خير آخذ. فتركه النبي صلي الله عليه وآله وعفا عنه. فجاء إلى قومه وقال لهم: والله جئتكم من عند خير الناس). فهل يذكر التاريخ عن العظماء مثل هذه القصة.
دولة العدل فوق كل شيء
كل الدلائل تشير إلى ان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله, كان ينتهج العفو كلما حانت الفرصة إلى ذلك, على الرغم من ان كثيراً من المسلمين دعوا إلى وجوب معاقبة الأعداء أشدّ العقوبات، لكن النبيّ صلى الله عليه وآله, كان يضع سياسة العفو في دولة العدالة فوق كل شيء، كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (اشتد أذى المشركين للرسول صلي الله عليه وآله يوم أحد إذ قتل عمّه حمزة، ومثّل بجسده الشريف، وقطع كبده وأصابع يديه ورجليه، وجدع أنفه، وصلموا أذنيه وفُعل به ما فعل، وقُتل العشرات من المسلمين.. فتقدّم بعض الصحابة إلى النبي صلي الله عليه وآله واقترح عليه أن يدعو على المشركين ليعذّبهم الله بعذاب من عنده، كما كان يعذّب الكفّار في الأمم السابقة بدعوة أنبيائهم عليهم.. لكنه النبي صلي الله عليه وآله وسياسة العفو العظيمة، امتنع من ذلك وقال: إني لم أبعث لعّاناً، ولكنـي بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، ومن القصص التي تقع في هذا المضمار، كيفية تعامل القائد الأعلى للدولة الإسلامية مع أعرابي بسيط ارتكب زللاً كبيراً بحقّه شخصياً، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (جاء أعرابي إلى النبي صلي الله عليه وآله والبُرد على كتفيه صلي الله عليه وآله فجذب الأعرابي أطراف الرداء جذبة شديدة حتى أثّرت حاشية البُرد في صفحة عاتقه وهو يقول بخشونة بالغة: يامحمد، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لاتحمل لي من مالك ولا من مال أبيك.. فسكت النبي صلي الله عليه وآله هنيئة ثم قال صلي الله عليه وآله: المال مال الله وأنا عبده.. وقال صلي الله عليه وآله: ويقاد منك ياأعرابي ما فعلت بي؟. قال: لا؟ قال صلي الله عليه وآله: ولم؟ قال: لأنك تعفو، وتصفح، ولا تكافئ بالسيّئة السيّئة. فضحك النبي صلي الله عليه وآله ثم أمر صلي الله عليه وآله أن يحمل لـه على بعير شعير وعلى الآخر تمر). بمثل هذا العفو جمع النبي صلي الله عليه وآله الناس حول الإسلام واستقطب مختلف الفئات وأصحاب العديد من الأديان والمبادئ.
العفو سبيلنا للتقدّم والسلام
لاشك ان العفو يدعم السلام والاستقرار ويدعم دولة العدالة، لهذا كان هذا نهجاً دائماً لقائد الدولة الإسلامية الأعظم، لذا يحكي لنا التاريخ بتوثيق لا يقبل الاعتراض كيف تعامل الرسول صلى الله وآله مع أعداء الاسلام، إذ يذكر سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (ومن عظيم عفوه صلي الله عليه وآله معاملته مع أهل مكّة. أهل الشرك والكفر.. أهل الجحود والعصبية.. أهل الفساد والظلم.. أهل القسوة والغلظة.. الذين قتلوا أصحابه، وأنصاره، وأقرباءه في عشرات الحروب. والذين أخرجوه صلي الله عليه وآله من مسقط رأسه الشريف، وبلد الله، وبلد آبائه، ومحل عبادته نصف قرن. والذين عذّبوا المهاجرين بأنواع التعذيب، وقتلوا العديد منهم. والذين تآمروا على قتله صلي الله عليه وآله عدّة مرّات وكلها باءت بالفشل. والذين مارسوا مع النبي صلي الله عليه وآله وأنصاره كل أنواع المظالم والفضاضة.. هؤلاء.. جاءهم النبي صلي الله عليه وآله فاتحاً منتصراً عليهم.. أترى ماذا كان يفعل إنسان آخر لو كان في موقع النبي صلي الله عليه وآله؟)، وهكذا تكون دولة العدالة، قادرة على تصحيح الأخطاء من خلال سياسة العفو في محلّها الصحيح ووقتها الصحيح أيضاً، من خلال منح الإنسان الخاطئ فرصة التصحيح، بالإضافة إلى ان العفو يساعد الإنسان على البداية من جديد، مع دعمه الكامل للدولة والحكومة التي تقود الشعب وفق هذه السياسة بطريقة ناجحة، ويبقى التدبير النبوي أقوى دليل على أن سياسة العفو تصنع دولة مستقرّة وعادلة إذا تمكّنت الحكومة من انتهاج سياسة العفو بالصورة المطلوبة.
لذلك يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال على سمات وخصال وصفات وملكات النبي الكريم صلى الله علي وآله, قائلاً: (إنه العفو الذي بلغ منتهاه. وبالتالي: إنّه الإسلام، جامع كل الفضائل والخصال الحميدة في أقصى أقصاها.. وأي رئيس إسلامي يكون على خط رسول الله صلي الله عليه وآله فسوف يكون هكذا. وأمثلة العفو من رسول الله صلي الله عليه وآله كثيرة.. وكثيرة جداً، وإحصاؤها يستدعي مجلّداً خاصّاً).