شبكة النبأ: (القادة الشجعان يربون الأمة على الشجاعة والعكس بالعكس). سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
تنبئنا سجلات التاريخ الحقيقية عن صفات يتحلى بها القادة العظماء، أولئك الذين سطروا الملاحم العظيمة، ونهضوا بأممهم إلى أعلى المراتب، وأول تلك الصفات هي الشجاعة بأروع صورها، وهي شجاعة القائد الإنسان، صاحب القلب الرحيم، الذي يتخذ من اللين منهجا له رغم شجاعته العالية، وينأى بنفسه وبأمته وجيشه عن العنف لتصبح أبعد ما يكون عن الحروب والعنف.
كما أن ما يدعم هذه الشجاعة صفات قد تبدو مناقضة لها، فالشجاعة تحتاج إلى الحزم والصرامة والقسوة أحيانا، لكن نلاحظ منهج الرسول (صلى الله عليه وآله) كان قائما على اللين، والابتعاد التام عن العنف، سواء مع الأعداء، أو مع أبناء الأمة.
وهذه من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها قائد الأمة أو الدولة أو المجتمع، فطبيعة العلاقة القائمة بين الحاكم الحق النموذجي وبين أبناء أمته يجب أن تقوم على اللين والعفو، وهذه أهم الركائز التي يجب أن تُبني عليها هذه العلاقة، وأية علاقة بين الحاكم والمحكوم، بمعنى يتعامل القائد بمنهج اللاعنف في جميع القضايا التي تقع في حدود حكمه.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يشير إلى أهمية هذه النقطة في كتابه القيّم الموسوم بـ(السياسة من واقع الإسلام) فيقول:
(إن القاعدة الأساسية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي السلم واللاعنف، ومنها ننطلق إلى كافة تفاصيل الحياة السياسة).
لذا فإن القائد في كل الأحوال هو النموذج الأول للناس، وغالبا ما تقع أبصارهم عليه، فيجعلون منه الشخص الذي يتشبهون به، لاسيما إذا كانت صفاته تقع في إطار الصفات التي حدّدها الله تعالى من ضمن سمات وصفات القائد، وقد وجدناها في قيادة الإمام علي عليه السلام، حين كانت الشجاعة صنوا له، واللين ملازما لقراراته، واللاعنف من أهم سياساته مع الأعداء والأصدقاء.
لذا فإن منهج القائد الحق، يقوم على اللين واللاعنف في جميع العلاقات التي تربطه بالناس، ومن هذا المبدأ ينطلق نحو منح الجميع حقوقهم الأساسية وفي مقدمتها الحرية، حرية الرأي والمعتقد والتفكير، فهذه هي أهم الركائز التي تقوم عليها سياسة القائد النموذج.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ القائد المسلم الذي يمارس الإرشاد والتوجيه وسوق العباد نحو عبادة الخالق وحده، يجب أن يلتزم بشروط، في مقدمتها منح الحرية للناس بجميع أشكالها).
سياسة الإحسان وحفظ الحقوق
أما هذا المنهج الذي يميز القائد الناجح، فهو في الحقيقة ليس فضلا على الناس، فحينما يتعامل الحاكم في حدود الفضيلة والعفو واللين والابتعاد عن العنف، لا يكون متفضلا على الأمة، وإنما هذا هو الواجب الصحيح الذي ينبغي أن يؤديه الحاكم من ضمن واجباته.
فسياسة الإحسان التي ينتهجها الحاكم ليست منّة على الناس، وإنما هي واجب على الحاكم، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الصفات التي تُنصف الناس، وتؤمّن لهم حقوقهم، وتبني لهم الحياة الصحيحة الآمنة، فالسلطة لا ينبغي أن تخضع للرغبات الفردية للحاكم، وهذه مهمة من يقوم بالتبليغ، حيث يحتاج الناس والحاكم إلى التنوير في وقت واحد.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إن السياسة الدينية مهمة لا تأتي من باب التفضل أو الإحسان الذي يمكن للسلطة أن تمارسه بحسب أهواء أربابها، وإنما هي واجب يقع على عاتق أي إنسان يتصدى لمهمة تبليغ رسالات الله إلى الناس).
السؤال الذي يتردد دائما بين المهتمين من مفكرين وساسة ومؤرخين وغيرهم يتمحور حول شخصية الرسول صلى الله عليه وآله، وكيف استطاع أن يجعل من نفسه مركزا يستقطب اهتمام قادة وحكام العالم كله، أولئك الذين عاصروه وخضعوا له بعد أن أعجبوا بتجربته وشخصيته، أو أولئك الذين لحقوا به فيما بعد.
هؤلاء كلهم كانوا مستغربين بالكفية التي استطاع فيها النبي صلى الله عليه وآله أن يجمع في شخصه منهج العفو واللين ومعهما في نفس الوقت الشجاعة التي تتطلب الحزم والصرامة والقسوة الهائلة في بعض الأحيان، لذا فإن الجمع بين هذه المتناقضات الكبيرة هي التي حيرت عقول الحكام والقادة آنذاك.
ولكن مع كل ذلك استطاع الرسول بحنكته وحكمته وقيادته النموذجية أن يجمع الناس حوله، وأن يقنعهم بقيادته، وبأهدافه، وأن يستقطب إعجاب كبار الحكام والقادة آنذاك، بالإضافة إلى عامة الناس حيث أصبح الرسول صلى الله عليه وآله الفنار العالي الذي يسترشد به الناس كبيرهم وصغيرهم، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، حاكمهم وبسيطهم.
يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) هذه النقطة، فيقول:
(لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله سيداً لساسة العالم، وأكبر سياسي محنك، فهو تلميذ الله تعالى، وأستاذ جبرئيل، وسيد الأنبياء ومعلم البشرية أجمعين. وسياسته (في اللين واللاعنف) هي التي حيرت العقول، وأشخصت أبصار العالمين.. وبهذه السياسة الحكيمة استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله أن يجمع حول الإسلام أكبر عدد ممكن من البشر، في مدّة قصيرة، أدهشت التاريخ، وأنست الأولين والآخرين، وأخضعت حكماء العالم لها إجلالاً وتقديراً.. مما لا يوجد في تاريخ العالم الطويل مثيل ولا نظير لها).
نماذج قيادية أخلاقية عظيمة
وهذا يكون القادة العظماء، أمثلة صالحة ونماذج كبيرة يتشبّه بها الجميع، سواء بالأخلاقيات، أم الصفات الشخصية، بل وحتى في الكلام والملبس وتناول الطعام، هذه الجزئيات التي تبدو غير ذات أهمية في تشكيل الشخصية، يمكن أن يؤثر الحاكم من خلالها على الناس إذا كان النموذج القيادي الجيد لهم.
لاسيما الشجاعة، فالإنسان يحب بطبيعته الإقدام، ويرفض الخنوع والجبن، لذا إذا وجد في قائده وحاكمه النموذج الأفضل للشجاعة والإقدام سوف يتشبّه به، وهكذا يمكن للقادة الشجعان أن يصنعوا أمما تتحلى بالشجاعة والإقدام.
وهذا ما نقرأه في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حيث يقول:
(الأمم ترمق إلى قادتها، وتتبلور حياتها السياسية بأسلوب قادتها، فالقادة الشجعان تربي الأمة الشجاعة، والعكس بالعكس).
وهكذا حدث التشابه العظيم بين شخصية الرسوةل صلى الله عليه وآله، وبين فحوى الدين ومضامينه وتعاليمه، فالإسلام دين العفو واللين والرحمة، وهذه أيضا صفة مركزية ترسخت في شخصية الرسول صلى الله عليه وآله، وهكذا حدث هذا الانسجام والتناغم بين الدين وبين الحاكم النموذجي للمسلمين، فكانت المعجزة العظيمة في خلق الدولة الناجحة، والأمة المتصدرة لأمم العالم أجمع في الأخلاق والشجاعة واللين والتراحم.
وهكذا أصبح منهج اللين مسارا واضحا للمسلمين يجدونه في تعاليم وأحكام دينهم، فلا يبدي الإسلام العداء حتى لأعدائه، وهكذا تشكلت شخصية الرسول صلى الله عليه وآله، وكم نحن بحاجة اليوم إلى هكذا نموذج من الحكام يكونون قدوة لمجتمعاتهم الإسلامية حتى يتشبه الناس بهم ويسيرون على منهجهم، حيث يتم تعميم العدالة على الجميع.
يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) هذه النقطة فيقول:
(لقد مثل النبي صلى الله عليه وآله عفو الإسلام خير تمثيل. وأفهم الجميع أن الإسلام جاء يريد الخير للجميع، لأوليائه وأعدائه جميعاً، وليس ديناً يحقد على أحد، وليست بعض ممارساته الصارمة نابعة عن القسوة، أو الحنق، وإنما هي نابعة عن روح تعميم العدالة على الجميع).
في الخلاصة، هكذا يمكن أن تكون صفات الحاكم المطلوب، والحقيقة ليس المقصود بالحاكم فقط حاكم الدولة، وإنما هو أيضا حاكم المدينة وحاكم الجامعة وحاكم المدرسة، بمعنى المسؤول الأعلى عنها، حتى رب الأسرة هو المسؤول عنها بهذا المعنى، فهؤلاء جميعا يجب أن يتحلوا بصفات الحاكم النموذجي، تلك الصفات التي تحلّى بها الرسول صلى الله عليه وآله فكسب العالم كله، بناسه البسطاء والعظماء من قادة الأمم الأخرى.