شبكة النبأ: (السياسة التي لا رفق فيها هي كجسد بلا رأس) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
ما بين الرفق والعدل روابط ووشائج متينة وقوية لدرجة أنهما يتلازمان معًا في أية سياسة حكيمة وناجحة، كأنهما ركنان لا يمكن للحكم المثالي أو الحكم المتوازن الناجح أن يتخلى عنهما، لهذا أينما تجد العدل تجد الرفق لصيقا به، يدعمه كسياسة دائمة للحاكم وحكومته، وهذه بالضبط هي السياسة التي ميَّزت حكومتيّ رسول الله صلى الله عليه وآله، والإمام علي عليه السلام، حيث كان الرفق ملازما لكل السياسات والقرارات التي صدرت عنهما.
وفي نفس الوقت كانت العدل هو الأسلوب الإداري الأعظم الذي أدار فيه الرسول والإمام علي صلوات الله عليهما وآلهما، شؤون الدولة والناس، وقد احتل الرفق وصفا هائلا حيث وُصِفَ بأنه بمثابة الرأس للجسد، وهل هناك قيمة للجسد دون رأس، أليس الرأس هو الذي يقود الجسد في كل حركاته وأفعاله وأنشطته بل وحياته كلها، ولنا أن نتصور كيف يعيش الجسد بلا رأس، ففي هذه الحالة يصبح الجسد عدمًا لا قيمة له.
بل ليس هذا فحسب، لأن الجسد بلا رأس سوف يتحول إلى جثة لا يخرج منها سوى ما يضرّ الناس ويضر الجسد نفسه، هذا ما يحدث واقعيا وماديا، لكن حتى على سبيل المجاز والوصف، فإن الجثة بلا رأس تشبه الإنسان الأرعن الذي يجوب الشوارع بلا عقل، ولا ينتج عنه سوى إلحاق الأذى بالناس وبنفسه أيضا.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في سلسلة محاضرات نبراس المعرفة بمحاضرة عنوانها (الرفق في الإسلام):
(سياسة العدل هي سياسة رسول الله وسياسة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما التي أدار بها شؤون البلاد والعباد. وأساس هذه السياسة هو استعمال الرفق. فإذا لم يكن فيها رفق كانت كبدن إنسان ليس فيه رأس، والبدن الذي يفتقد للرأس وجوده كعدمه يبقى مجرد جثة هامدة تتعفن بعد أيام وتكون مصدراً للأمراض والأضرار).
سياسة الحكم الرشيد يمكن أن تجعل من الحاكم مأمورا من شعبه، وخاضعا له، ومستمعا لأوامر شعبه وأمته، كل هذه الصفات يمكن أن تجدها في الحاكم عندما يكون حاكما صالحا، وهذا ما كان يتميز به أمير المؤمنين علي عليه السلام، فهو الذي استجاب لمطالب شعبه الصعبة والمحرجة والخطيرة جدا، بحيث كانت تنطوي على ظلم بيّن.
متى يصبح الحاكم مأمورا لشعبه؟
ومع ذلك يستجيب الإمام علي لتلك الطلبات التي انحازت بشكل مضاد للحاكم، ومع ذلك ولأن مصلحة الأمة والدولة تكمن في الاستجابة، كانت الحكمة القيادية هي التي جعلت من الحاكم مأمورا لشعبه، ومتقبّلًا لما يريده من قضايا ليست (عادلة)، لكن سلامة الأمة وسلامة نسيجها ووحدتها، جعلت الإمام علي يتعامل بحكمة ويتحمل الأذى والألم حتى لا يصيب الأمة ويجعلها تعاني من التشاحن والتشاجر والاختلاف.
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يشير إلى هذه الحالة فيقول:
(إن سياسة الحُكم تجعل من الحاكم مأموراً للأمة حتى لا تصاب الأمة بأذى وضرر وانهيار، ولذا كان الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يتحمل الأذى ويرتضيه لنفسه كي لا تتحمل الأمة هذا الأذى وتبقى موحّدة).
من الأمور التي يتفق عليها الناس، أن الرأس هو الذي يقود كل شيء، ولهذا انتقل هذا التوصيف إلى التعابير اللغوية، حتى قيل (رأس الحكمة مخافة الله)، لكن كما نعرف واقعيا ليس هناك رأس للحكمة، وهكذا يمكن أن نعثر على الكثير من المقولات تندرج تحت هذا المعنى أيضا، فالرأس هو الأهم دائما والأقدر على اتخاذ القرارات وإدارة الأمور.
لهذا وصف الإمام علي عليه السلام الرفق بأنه رأس السياسة، لذا فإن السياسات كلها سواء كانت تتعلق بالسلطة أو علم الإدارة أو العلوم والمجالات الأخرى، إذا لم يكن معها الرفق، فهي بلا (بوصلة) يمكن أن تدلها على الطريق (الصواب، الصحيح)، وقد اقترن هذا الوصف للإمام علي بالتطبيق، حيث طبّقه في سنوات حكمه وإدارته لشؤون المسلمين، فكان الرفق هو الرأس الملازم لجميع قرارات الحاكم، والذي جعل منه في مقدمة الحكام الذين يُضرَب بهم المثل عندما يتم الحديث عن تجارب الحكم الناجحة عبر التاريخ.
يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(أمير المؤمنين هو القائل (رأس السياسة استعمال الرفق) وهو الذي طبق ذلك عملياً في موارد عديدة من حكمه وحياته، والآخرون غير أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أيضاً يتحدّثون بهذه المفاهيم ولكنهم يعملون بخلافها).
عندما نطالع تاريخ الحكومات الإسلامية، فربما نعثر على جودة بعضها وهو في الحقيقة أمر نادر، ولكن وجوده هو نتيجة لا ريب فيها لحكومتي الرسول صلى الله عليه وآله، والإمام علي عليه السلام، فهاتين الحكومتين، كان الرفق عنوانا عريضا لهما في جميع السياسات والقرارات، وكما ذكرنا فإن الرفق يلازم العدل دائما ولا يمكن أن يتخلى عنه.
حكومة الرحمة واللين والسلام
لهذا فإن أية حكومة إسلامية تمسكت بالرفق كسياسة لها، لابد أن تكون متأثرة بالنموذجين المذكورين في تاريخ الحكم الإسلامي، وعندما نجد الرفق والعدل في حكومة ما، فإننا سرعان ما نعثر على ذلك التأثير الواضح الذي جعل من الرفق قرينا بالعدل، ومن جعل من هاتين الركيزتين نقطة انطلاق متينة لسياسة تعالج شؤون الناس وفق سياسات وقرارات ديدنها الرفق والرحمة واللين والعدل، وهو ما وضّحته لنا صفحات التاريخ الموثوقة.
لذا فإن النموذج المثالي لنظام الحكم، كان يتجسد بالحكومتين المذكورتين اللتين سبق ذكرهما في أعلاه، وهذا يعني أن التأثير المنظور الذي انعكس على بعض تجارب الحكم، كان مأخوذا مما رشح عن طريقة إدارة الدولة والناس في عهديّ الرسول صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام، ولهذا فإن حكام الحاضر المسلمين ملزمين بقوة بتقديم نموذج الحكم المثالي قبل غيرهم من الأنظمة الأخرى من باب وحدة الانتماء.
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يقول:
(إذا كان هناك بعض الرفق وبعض الحريات والممارسات الجيدة في بعض الحكومات والأنظمة، إنما هي ناتجة عن سياسة الرفق التي اتّبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسياسة الرفق التي اتّبعها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في فترة حكميهما والتي كانت فيها الحرية والراحة والطمأنينة والسلام).
لا يتعلق الأمر بأنظمة الحكم الإسلامية، عندما نتحدث عن قضية التأثير والتأثّر، فبعد أن اطلعنا على طبيعة ما اقترنت به الحكومتان المثاليتان في تاريخ الإسلام السياسي، لابد أن جميع الدول في العالم، وأنظمة الحكم التي تقودها، ترى فيما تم طرحه عن صفات وسياسات وقرارات الحكومتين (حكومة الرسول والإمام علي صلوات الله عليهما وآلهما)، محفزات واضحة للتشبّه بذلك في إدارة نظام الحكم.
حيث يعيش العالم كله طعم (الرفق) كعنصر أساسي في إدارة السلطة والحكم وإدارة شؤون الناس، فيغيب الظلم والظلام، ويحل الضوء والعلم وينجلي الجهل، ويسود العدل والرفق والسلام.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(في عالمنا اليوم إذا طبّقت هذه السياسة وعُمِلَ بهذا المنطق، سوف تشهد الإنسانية طعم الرفق، وسوف يتخلّص المجتمع من هذه المظالم التي يعيشها في كل زمان ومكان، سواء كانت قليلة أو كثيرة).
إننا في حقيقة الأمر أم نموذجين مثاليين للحكم في تاريخ المسلمين، وهذا يستدعي من الحاكم المسلمين في الحاضر الاستفادة القصوى منهما، لاسيما في تطبيق الركنين المتلازمين (العدل والرفق)، في إدارة السلطة، وهو أمر ممكن إذا عقد السياسيون العزيمة والإرادة لجعل الرفق ملازما لحكمهم والعدل لصيقا بهم.