موقع الإمام الشيرازي
في ذكرى شهادة الإمام علي الهادي عليه السلام، فإن استعادة سيرته ليست مجرد استذكار تاريخي أو وجداني، بل هي عودة واعية الى "نموذج أخلاقي - ديني متكامل"، صاغ موقفه من الحياة والسلطة والعمل والظلم، في أكثر العصور ظلماً وقسوة واضطراباً. فقد عاش الإمام الهادي عليه السلام في زمنٍ كانت فيه الخلافة العباسية قد بلغت ذروة تسلطها، وانكشفت فيه الهوة العميقة بين "الدين الرسمي" الذي ترعاه السلطة، و"الدين القيمي" الذي جاء به نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وجسّده أهل البيت عليهم السلام عبادة وسلوكاً وموقفاً.
رُوي أن الإمام علي الهادي عليه السلام كان يعمل بيده في أرض له لإعاشة عياله، فقد روى عليّ بن حمزة حيث قال: رأيت أبا الحسن الثالث يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه من العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟
فقال الإمام عليه السلام: "يا علي قد عمل بالمسحاة من هو خير منّي ومن أبي في أرضه".
قلت: من هو؟
قال الإمام: "رسول الله وأمير المؤمنين وآبائي، كلّهم عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين" (وسائل الشيعة للحر العاملي: ج17 - ص39).
هذه الرواية؛ التي تتحدث عن أن الإمام الهادي كان يعمل بيده في أرضه، تشكّل مفتاحاً لفهم هذا النموذج الأخلاقي - الديني المتكامل. فحين رآه علي بن حمزة يعمل وقد ابتلت قدماه بالعرق، وسأله متعجباً: "أين الرجال؟"، لم يكن السؤال عن الجهد الجسدي فحسب، بل عن المعنى الاجتماعي للقيادة والمكانة. فجاء جواب الإمام حاسماً ومزلزلاً للمعايير السائدة: "قد عمل بالمسحاة من هو خير مني ومن أبي في أرضه… رسول الله وأمير المؤمنين وآبائي، كلهم عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء الصالحين". بهذا الجواب، أعاد الإمام تعريف الكرامة الإنسانية، وربطها بالعمل الشريف لا بالسلطة أو الامتياز.
هذه الرواية لا تحمل بعداً أخلاقياً فردياً فقط، بل تنطوي على موقف سياسي عميق. ففي عصرٍ كانت فيه موارد الرزق تُستَخدَم أداة للابتزاز السياسي، وكان القرب من دواوين الخلفاء مدخلاً للثراء والنفوذ، اختار الإمام الهادي طريق الاستقلال الاقتصادي. العمل في الأرض لم يكن مجرد وسيلة لإعالة العيال، بل إعلاناً عملياً بأن المرجعية الدينية أو رجل الدين أو الإنسان لا يجوز أن يكون رهينة عطايا الظالمين. فإن اليد التي تأخذ من السلطان الجائر تُقيَّد، والصوت الذي يُموَّل من الظلم يصعب عليه أن يدين الظلم.
ومن هنا تتضح العلاقة العضوية بين العمل والحرية. فإن استغناء الإمام عن عطايا الخلفاء العباسيين منحه مساحة واسعة من الاستقلال في الموقف والكلمة، وحرّره من الضغوط التي كانت تُفرض على العلماء والوجهاء لشرعنة سياسات السلطة أو تبرير بطشها. لقد كان العمل اليدوي، في هذا السياق، ممارسة تحررية بامتياز، تقف في مواجهة اقتصاد الظلم الذي ينتج التبعية قبل أن يُنتج الفقر.
كما أن وجود الإمام الهادي عليه السلام في سامراء، تحت رقابة المتوكل العباسي الصارمة، أضفى على هذا السلوك بعداً آخر. فالعمل في الأرض شكّل غطاءً اجتماعياً مشروعاً، لا يثير الريبة المباشرة، لكنه سمح للإمام بالحفاظ على حضوره الفاعل بين الناس. لقد تحولت المزرعة إلى فضاء إنساني مفتوح، يلتقي فيه الإمام بأصحابه ومواليه بعيداً عن عيون القصور، وتُتداول فيه القيم والعقيدة والتوجيه، في صورة هادئة لا تستفز السلطة لكنها تقوّض شرعيتها الأخلاقية من الداخل.
وفي هذا السياق، تبرز رسالة الإمام السياسية-الأخلاقية بوضوح وهي أن الكدح في الأرض أشرف من العمل في دواوين الظالمين. فإن العمل مع الحاكم الجائر، أو تلميع صورته، أو تبرير ظلمه، ليس شأناً إدارياً محايداً، بل تورط أخلاقي يمس جوهر الدين. ولهذا شدد أئمة أهل البيت على أن العمل مع الظالم مذموم إلا في حالات الضرورة القصوى التي يُقصد بها دفع ظلم أعظم أو نصرة مظلوم، لا تثبيت أركان الجور.
من هنا، لا يمكن فصل سيرة الإمام الهادي عن قضية الظلم بوصفها قضية مركزية في الدين. فإن الظلم، خاصة إذا صدر عن الحاكم أو المسؤول، ليس مجرد انحراف سياسي، بل جريمة أخلاقية تهدم معنى الاستخلاف الإلهي في الأرض. وقد جسّد الإمام الهادي موقفاً صريحاً من هذا الظلم، لا بالشعارات الصاخبة، بل ببناء نموذج مضاد؛ يتمثل من خلال قائد يعمل بيده، ويعيش هموم الناس، ويرفض الامتيازات السلطوية، ويُنزّه الدين عن أن يكون غطاءً للاستبداد.
إن هذا النموذج يضع مسؤولية خاصة على عاتق علماء الدين والمثقفين. فإن الدين، في جوهره، رسالة عدل ونصرة للمظلومين، وأي صمت عن الظلم أو تواطؤ معه أو تبرير له، هو تشويه للدين قبل أن يكون خيانة للناس. والعمل ضد الظلم، بالكلمة والموقف والسلوك، هو من صميم الأعمال الصالحة، بل من أعلاها شأناً، لأنه يحفظ كرامة الإنسان ويصون قدسية القيم.
وفي ذكرى الإمام علي الهادي عليه السلام، تتجدد الدعوة إلى تأمل هذا الدرس العميق وهو:
أن الطهارة الحقيقية ليست في العزلة عن الحياة، بل في الانخراط النزيه فيها؛
وأن التقوى لا تقاس بالمزاعم وكثرة الشعارات، بل بوضوح الموقف من الظلم؛
وأن الدين، إذا لم يكن في صف المظلومين، فقد جوهره ومعناه.
هكذا عاش الإمام، وهكذا فصل الإمام بين الدين الدين والدين اللادين، وهكذا ترك الإمام لنا سيرة لا تزال قادرة على إيقاظ الضمير، وتحفيز النفس، ومساءلة السلطة، وتحرير الإنسان.
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾(التوبة: 105)