LOGIN
المقالات
alshirazi.org
محاسبة المسؤول من واقع الإسلام
رمز 143
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 9 يوليو 2013
محمد علي جواد

شبكة النبأ: عندما سمعت من أحد السياسيين البارزين في العراق في أول تجربة انتخابية، أن (ديمقراطيتنا لا مثيل لها.. فالمسؤول يكون محاسباً أمام حزبه وجماعته، قبل أن يكون مسؤولاً أمام مجلس النواب..)، عرفت أن الرجل يسعى لإيجاد بديل مريح للاستجواب، لاسيما في بلد مثل العراق الذي ظلّ الطريق بشعبه، فبدلاً من أن يتّجه نحو المشاركة الجماهيرية في صنع القرار، وتشكيل نظام حكم يسير في طريق المساواة والعدل والقيم الإنسانية والدينية، وجد نفسه أمام باب للفساد المالي والإداري يسع أعداداً لا عدّ لهم ولا حصر. لكن في هذا العراق نفسه، وتحديداً في الكوفة، كان هنالك حاكماً سالف الزمان، يقوّم المحافظ والمسؤول والمدير، حسب تعبيراتنا الدراجة، على أبسط زلّة يسقط فيها.

إنه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، عليه السلام، الذي قدّم لمن يهمه الأمر، نماذج عملية للاستجواب والمسائلة بما يرضي الله تعالى وعباده أولاً, ثم يسهم في استقرار نظام الحكم ثانياً. وهذه تحديداً ضالّة المسؤولين في العراق، وفي عديد بلادنا الإسلامية، فهم بالحقيقة لا يسيئون على الناس، من خلال تجاهل مطاليبهم وحقوقهم، والاستمرار في عمليات الاختلاس والغش والمحاباة وغيرها، إنما يسيئون إلى أنفسهم، لكن لا يشعرون!

مصداقية عملية لـ(خادم الشعب)
ومن كتابه القيّم؛ (السياسة من واقع الإسلام)، لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، نواصل استلهام الدروس والعبر التي من شأنها التقليل من الانحرافات والمنزلقات التي ربما يقع فيها بعض المسؤولين عن عمد ودراية أو غيرها. وخير وصف له للسياسة الإدارية للإمام عليه السلام، يقول سماحته: (لم يكن عليّ بن أبي طالب، عليه السلام، يريد للموظّفين أن يسبّحوا باسمه ـ شأن كثير من الحكّام والساسة ـ إنما يريدهم أن يسبّحون باسم الله تعالى، أي يريدهم على طريق الله بشكل دقيق وكامل ودائم، لذلك؛ فكما نصبهم على يده، فإنه يرى نفسه مسؤولاً عن تصرفاتهم).

جاء في التاريخ أن امرأة من بني همدان اسمها (سودة بنت عمارة) شكت إلى أمير المؤمنين عليه السلام، والياً من قبله، فعزله الإمام، عليه السلام، خلال دقائق فقط، والقصّة، كما أوردها الإربلي في كتابه (كشف الغمّة) عن سودة بنت عمارة الهمدانية ـ في حديث دخولها على معاوية ـ قالت: والله لقد جئته ـ تعني أمير المؤمنين عليه السلام ـ، في رجل كان قد ولاّه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائماً يُصلّي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل عليّ بلطف ورفق ورحمة وتعطف وقال:

ألك حاجة..؟‍!

قلت: نعم، فأخبرته الخبر..

فبكى عليه السلام، ثم قال: ـ رافعاً طرفه إلى السماء ـ : (اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقّك).

ثم أخرج، عليه السلام، قطعة جلد كتب فيها:

(بسم الله الرحمن الرحيم.. قد جاءتكم بيّنة من ربّكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين).

فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه. والسلام).

قالت: ثم دفع الرقعة إليّ، فو الله ما ختمها بطين، ولا خذمها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه، فانصرف عنّا معزولاً).

هكذا وبكل بساطة وسهولة، تتم معاقبة المسؤول في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، حتى أنه لم يمهله الدفاع عن نفسه، أو استدعائه لاستجوابه ومسائلته، كما يحصل في بلادنا، وربما تكون محاولات الاستجواب، سواءً في البرلمان أو في مكان آخر، فرصة للتنصّل والتبرير، هذا إن لم يشفع للمقصّر والمذنب، بل حتى اللصّ، جماعته وحزبه. والعبرة في هذا الدرس، وضع المسؤول وأفراد المجتمع، على قدم المساواة، وعندما يعزّل الإمام عليه السلام، أحد ولاته، فإنّه بالحقيقة يعلّمنا كيفية إعطاء مصطلح (المسؤول خادم للشعب) مصداقية حقيقية، وليس مجرّد شعار يرفع في الحملات الانتخابية، أو صوت يعلو في المهرجانات الخطابية.

وإلى ذلك يشير المرجع الشيرازي في تعليقه على حادثة أخرى في سجل النزاهة المتناهية لأمير المؤمنين عليه السلام، وكان بطلها (أبو الأسود الدؤلي)، هذه الشخصية المعروفة، بالعلم والتقوى والقرب منه عليه السلام، فعندما كان قاضياً، صادف أن علا صوته على أحد المتخاصمين، وعلى هذه الزلّة، وصله كتاب العزل. فيقول سماحته: (المتخاصمان إنسانان محترمان في منطق الإسلام، وليس للقاضي أن يهينهما بأيّة إهانة، ورفع الصوت نوع من الإهانة، وليس ذلك من أدب الإسلام في القضاء). ويضيف سماحته في هذا السياق: (ينبغي أن يُعزل القاضي الذي يمارس ذلك، وإن كان مثل أبي الأسود الدؤلي، المعروف بعلمه وفضله، وخلقه وقربه من أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ الحقّ لا مداهنة فيه في منطق عليّ بن أبي طالب، عليه السلام).

الحقوق للناس لا للمسؤول
في معظم دولنا، إن لم نقل جميعها، يشتدّ البحث عن الامتيازات السياسية والمالية في الأوساط الحكومية والرسمية، حتى بين المدعين نيابة الشعب في (البرلمان). ولا من يحاسب، ولا من رقيب حقيقي يسترد الأموال والحقوق المسلوبة من الشعوب، إلاّ اللهم بعض الفرقعات الإعلامية لمحاسبة هذا ومسائلة ذاك، ضمن حبكة إعلامية للاستهلاك العام. بينما نلاحظ متابعة ومطاردة أموال الناس من خلال الضرائب المجحفة، أو التعرفات على قطاعات الصحّة والتعليم والنقل والطاقة وغيرها، بما يقصم الظهور. بحيث أن بعض الدول ترتّب على من يمتلك أكثر من دار ضريبة خاصة..! بينما في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، المتابعة والمطاردة لأموال وممتلكات المسؤول، لأن الإنسان العادي، إذا اكتسب مالاً بغضّ النظر عن مصدره، فإنّه يظلم نفسه، وشريحة بسيطة في المجتمع، بينما المسؤول المختلس والمرتشي الذي يكنز الملايين وربما المليارات، فإنّه يقصم ظهر شعب بكامله.

وقد كتب أمير المؤمنين عليه السلام، ذات مرة إلى بعض ولاته، وقد بلغه عنه بعض سوء التصرّف:

(أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت قد فعلته فقد أسخطّت ربّك وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك..

بلغني: أنك جردت الأرض، فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك. فارفع إليّ حسابك.. واعلم: أن حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام).

وهنا يقول سماحة المرجع الشيرازي أن (الناس في منطق الإسلام أحرار، لا يطالب أحد منهم بحساب، ولا يقال لأحد منهم: (من أين لك هذا)، أما الوالي، والحاكم، والعامل والموظّف الكبير، فيقال لـه: (من أين لك هذا)؟! فيحاسب في أمواله، وما عنده، ويهدّد بحساب الله الذي هو أعظم وأشدّ، إرساءً للعدل، وأماناً للأمة عن الظلم والحيف).

وطالما استفاد النوّاب والوزراء والمسؤولون المدنيون والعسكريون في بلادنا، - ومنها العراق طبعاً- من غطاء (الحصانة) سيّئ الصيت.. في التهرّب من عواقب الاختلاسات والسرقات والخيانات العظمى بحقّ شعوبهم، لذا لم يرى أحد وزيراً أو نائباً يحاكم بشكل علني على فساده المالي والإداري، إلاّ إذا سقط النظام بأكمله، وينهار هرم السلطة بأكمله، من أعلى قمّة وحتى الحجرة الصغيرة على الأرض، بينما الصحيح أن يكون النظام الصحيح ـ إن وجد طبعاً ـ قائماً مستقرّاً، وفي ظله تتم محاكمة المسيئين والمذنبين، ثم تعود الأمور إلى مجاريها، وكلٌ يواصل عمله بجدّية أكثر، وهو يحمل جرس الإنذار في داخله.. يقول المرجع الشيرازي: (الحصانة الدبلوماسية، والحصانة الإدارية، وحصانة الوظيفة، ونحو هذه المصطلحات لا مفهوم لها عند عليّ بن أبي طالب، عليه السلام، إذا خرج الدبلوماسي عن الحقّ، وجار الإداري، وعمد الموظّف إلى ما لا يليق به من إجحاف، أو ظلم، أو عدم اهتمام بالأمة.. فالأصل في اختيار الموظّف وإبقائه، واحد في منطق أمير المؤمنين عليه السلام، لايختلف أحدهما عن الآخر: الله والأمّة، وهذا هو الأصل الأصيل في اختيار الموظّف، وهذا هو الأصل الأصيل في الإبقاء على الموظّف).

معيار النزاهة
يدلّنا أمير المؤمنين عليه السلام، على المعيار والمقياس لانتخاب الموظّف النزيه والجيد، ليكون صورة نموذجية، ربما لا يمكن أن تتوفّر في شخص من الموجودين في واقعنا، لكن هذا لا يعني اليأس والإحباط الكامل من وجود الموظّف النزيه، والمدير أو المسؤول الملتزم بالقيم والمبادئ.. هذا المعيار يبلوره المرجع الشيرازي بقوله: (ان الموظّف الذي يختاره الإمام عليه السلام، لسياسة البلدان وإدارتها، لابدّ أن يتوفّر فيه شرطان: العلم والعدالة. فيجب أن يكون عالماً بأحكام الإسلام، وبالحلال والحرام، وكيفية الوساطة في الأمور بين الله تعالى وبين خلقه. كما يجب أن يكون عادلاً، مؤمناً خيراً، لا فاسقاً، ظالماً، مجحفاً).

فإذا قرأنا عن التشدّد الذي يبديه أمير المؤمنين عليه السلام، إزاء الولاة، وهم حسب تعبيرنا (المحافظين)، يجب أن نعلم الرؤية البعيدة له عليه السلام، في توفير أقصى درجات الأمن والاستقرار للشعب والبلد والأمة، وهذا ما يسلّط الضوء عليه المرجع الشيرازي في تحذيره من مغبة (خيانة أموال المسلمين التي هي خيانة لله تعالى).

ويتحدّث سماحته عن التقريع والتأديب الذي كان يمارسه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، مع ولاته، بأنّ ذلك من أجل (أن يأمن المسلمون من الخيانة والحيف).

هذه هي الطريقة التي مضى عليها الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، في المحاسبة والمساءلة، وكسب الاستقرار السياسي ـ الداخلي، ولننظر إلى ما حولنا من أمواج متلاطمة من الأزمات والنكبات السياسية والاقتصادية، التي يدفع ثمنها الناس العاديون بسبب الخيانة في الأموال والتلاعب بثروات الشعوب والأمّة في غياب الرقيب الصارم والحقيقي.