LOGIN
المقالات
alshirazi.org
السلطة وسياسة الوفاء.. حكومة الرسول أنموذجاً
رمز 269
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 10 أغسطس 2015
شبكة النبأ المعلوماتية: الوفاء يعدّ من القيم الإنسانية التي أسهمت بقوّة في تطوّر الدول والمجتمعات، ويعني الوفاء في أوضح وأقصر تعريف له، أنك لا تنس ما قدّمه لك الآخرين من مساعدة، أيّاً كان نوعها، صغر حجمها أو كبر، ومهما كان نوعها، فمن يبادر ويمدّ لك يد العون، ويقف إلى جانبك ويساندك، أيام المحنة والحاجة، يستحقّ أن تعيد إليه الموقف نفسه عندما تتمكّن من ذلك.

فالوفاء إذاً نوع من إعادة الجميل، فضلاً عن كونه موقف أخلاقي يفرض نفسه على الإنسان، ويستدعي نوعاً من الالتزام غير القابل للتسويف أو التملّص، وكلما كان الفرد أكثر وفاءً وتمسّكاً بهذه القيمة، كلما كان أكثر قيمة ومكانة عند الآخرين، والعكس يصحّ تماماً، فمن لا يتحلّى بالوفاء لا قيمة له عند الآخرين.

هذا الأمر لا ينطبق على الأفراد فقط، ولا يتعلّق بالجانب الأخلاقي حصراً، بل ينطبق على الحكومات والسلطة بأشكالها وأنواعها كافّة، إذ ينبغي أن تكون الحكومة والمسؤول الحكومي مهما كان حجم مسؤوليته وصلاحياته، وفياً للآخرين، والحاكم الوفي هو الحاكم الناجح، وهو الذي يكسب الشعب إلى جانبه، كونه ملتزم بقيمة الوفاء.

ولدينا في هذا الجانب، حكومة الإسلام المشرقة، متمثّلة بحكومة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، فالحقيقة تمثّل شخصية قائدها النبي صلى الله عليه وآله، نموذجاً للوفاء السياسي والأخلاقي المشترك، كما تدلّ على ذلك وقائع ومواقف كثيرة يحتفظ بها التاريخ المشرق للمسلمين.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في كتابه القيّم الموسوم بـ(السياسة من واقع الإسلام) حول هذا الجانب تحديداً: (سياسة الرسول صلي الله عليه و آله التي هي: إدارة البلاد والعباد بمعناها الصحيح كما يحبّ الله تعالى ويرضاه، كانت مبنيّة على الوفاء بالوعد، والالتزام بالقول، والوفاء الخلقي).

إنّ ما كان يقوم به قائد الدولة أيام الرسالة الإسلامية، يمثّل دروساً للجميع آنذاك، فكانت شخصية القائد النموذجي، تعني كل شيء بالنسبة للمسلمين، سواء بالنسبة للقادة والمسؤولين أو على مستوى الناس البسطاء، فالوفاء الذي كان يتميّز به قائدهم هو بمثابة الدرس الأخلاقي العملي لهم جميعاً، لاسيما انه لا يتعلّق بالسلوك السياسي فحسب، وإنما يمتدّ إلى السلوك المجتمعي أيضاً، في تقدّم الوفاء لكل من يستحقّه.

وقد ورد في هذا الشأن قول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه: (وذكروا: أنّه جاء وفد من قبل النجاشي إلى رسول الله صلي الله عليه وآله فأضافهم، وأكرمهم، واحترمهم.. وقام النبي صلي الله عليه وآله يحضّر لهم بعض الحاجات بنفسه الكريمة. فقال له بعض الأصحاب: نحن نكفيك ذلك. فقال صلي الله عليه وآله: إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحبّ أن أكافئهم).

شركاء في السراء والضراء
وهناك مواقف ذات بعد شخصي، كان يحرص قائد المسلمين على إظهاره للناس، حتى يتعلّموا منه، خاصة انه صلى الله عليه وآله النموذج للجميع، فكان الالتزام مع الآخر ديدن القائد، وكان شديد الحرص على الالتزام بالوعد والموعد على حدّ سواء، بغض النظر عن قيمة ومركز الإنسان، فالأخير متساوٍ في القيمة عند رسول الله صلى الله عليه وآله، والإنسان لديه واحد في قيمته، فكان الوفاء والالتزام لقائد المسلمين صلى الله عليه وآله يشمل الجميع، القادة وبسطاء الناس أيضاً.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب، في كتاب (السياسة من واقع الإسلام): (في مكّة المكرّمة، وقبل البعثة تواعد النبي صلي الله عليه وآله مع شخص أن ينتظره حتى يجيء ذلك الشخص، فراح الرجل، ونسي وعده، وترك النبي صلي الله عليه وآله يترقّبه ثلاث ليال في المكان نفسه. وبعد ثلاث جاء الفتى ليجد النبي صلي الله عليه وآله لا يزال في انتظاره بمكانه).

إنّ في هذا الانتظار درس لنا جميعاً، لاسيما قادة المسلمين المعاصرين، تُرى هل هم على استعداد لانتظار شخص بسيط لمدة دقائق، أم يتركونه وينسونه في دقائق؟؟، هكذا يعلّمنا القائد النموذج الرسول الكريم صلى الله عليه وآله أن للجميع قيمة كبرى، وأن الالتزام بالموعد دليل على قيمة عليا للإنسان، وهو مؤشّر عظيم على التقدّم البشري، وقد أخذت المجتمعات المتقدّمة اليوم بهذا السلوك في تعاملاتها كافة، فيما تركه المسلمون في تعاملاتهم، فتقدّم أولئك، وتأخّر المسلمون.

وللوفاء أوجه كثيرة لا حصر لها، والأهم في هذا الجانب، أن هذه القيمة لا تنحصر في جانب الأخلاق فقط، إنما هي نوع من السلوك الذي يخدم مصلحة الإنسان في السياسة، وفي الجوانب العملية الأخرى في الحياة، لذلك حرص القائد النموذج للمسلمين صلى الله عليه وآله، أن يكون وفياً لمن آزروه في سنوات المحنة، وقدم ذلك كدرس لا يُنسى لنا ولقادة المسلمين جميعاً.

يذكر سماحة المرجع الشيرازي في معرض كلامه عن الوفاء: (لما فتح الله تعالى لرسوله الكريم صلي الله عليه وآله مكّة المكرّمة لم يبق فيها ويترك الأنصار يعودون إلى المدينة لوحدهم، فيكون قد شاركهم مادام في العسرة فإذا تم الفتح تركهم.. بل أمّر على مكّة بعض أصحابه، وقفل راجعاً إلى المدينة بصحبة الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وآووه ونصروه).

وهذا الموقف يمثّل درساً في الوفاء لمن يقف إلى جانبك أيام العسر، فهل يفعل المسلمون ذلك ويلتزمون بهذا الدرس؟؟ ليس القادة فقط، بل حتى بسطاء الناس مشمولون بهذا الموقف.

الفريد في تاريخ العظماء
يذكر لنا التاريخ، أن هناك قادة عظماء لا مثيل لهم من قبل أو من بعد، وعظمة هؤلاء القادة تكمن في تفرّد مواقفهم التي لا مثيل لها، فيتم تسجيلها بأسمائهم حصراً، وتبقى نموذجاً حيّاً للجميع ما بقيت الحياة واستمر الوجود، ويأتي بعض هذه المواقف من التزام القادة بالوفاء، على الرغم من انهم باتوا يمتلكون سلطة قصوى تجعلهم لا يحتاجون لغيرهم بعد اليوم!

ولكن العظماء، أوفياء بالفطرة، لا ينسون من وقف إلى جانبهم، وساندهم في أيام وسنوات المحن الكبرى، وهكذا كان قائد المسلمين النموذج الأرقى في الوفاء للآخرين، في السياسة وفي الجانب الأخلاقي الإنساني الراسخ.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (على الرغم من أن مكّة كانت مسقط رأسه الشريف، وبلده الذي قضى فيه أكثر من خمسين عاماً، وبلد آبائه، وفيها الكعبة، وأضرحة آبائه وأجداده وآثارهم، وآثار الأنبياء السابقين من آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل عليهم السلام وغيرهم. كل ذلك وفاءً للأنصار. وقال: اليوم بر ووفاء).

ولعلنا اطّلعنا على تاريخ الثورات الكبرى وعلى قادتها، وسلوكهم، أو على بعض النماذج المهمة من الثورات التي غيّرت تاريخ البشرية، وفي جميع التجارب، كان القادة يحاربون الطغاة من المنفى، وعندما ينتصرون، يعودون إلى بلدانهم ويستقرّون فيها، لكن ما قام به قائد المسلمين النموذج، النبي محمد صلى الله عليه وآله، مختلف تماماً، إنه موقف القادة العظماء، وهو الموقف المتفرّد من بينهم جميعاً.

كما يؤكّد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (هذا هو الفريد من نوعه في تاريخ العظماء والقادة والثوار، فإنهم إذا أخرجوا من ديارهم نتيجة الثورة، فإذا قضوا على الزمرة الظالمة عادوا إلى ديارهم، إلاّ الرسول صلي الله عليه وآله، فلم يعد إلى مكّة ليبقى فيها، بل رجع إلى المدينة مع الأنصار، وبقي فيها حتى توفاه الله تعالى والتحق بالرفيق الأعلى، ولم يسكن في مكّة المكرّمة، ولم يبت فيها ليلة واحدة).