شبكة النبأ: مرّت قبل أيام مناسبة عزيزة على المسلمين وشيعة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ونعني بها مناسبة الغدير الأغرّ، ولكن للأسف نلاحظ أن خطاب التبليغ الشيعي وحتى الإسلامي لم يصل إلى مستوى هذا الحدث الكبير، حيث لا يزال الكثير من الشيعة أنفسهم غير مطّلع على ما جرى في الغدير وتغيب عنه الكثير من الحقائق والتفاصيل المهمة في هذه القضية المهمة من التأريخ الإسلامي في حلقاته المشرقة.
هناك خلل لا يمكن إنكاره أو نفيه، يؤكد أن الخطاب ليس في مستوى هذا الحدث العظيم، وتراجع الخطاب وعدم بلوغه مستوى الغدير له أسباب، وهذا يستدعي من الجميع البحث عن أسباب ضعف الخطاب، والعمل المستمر على معالجة تلك الأسباب والارتقاء إلى مستوى الغدير، حتى يكون في متنأول الجميع، سواء من المسلمين أو العالم أجمع، وسواء من الشيعة أو المذاهب الأخرى، فالغدير ينبغي أن تكون صفحة برّاقة وجذّابة يطلّع على ما فيها الجميع من دون استثناء، وهذا يعود إلى ارتقاء الخطاب التبليغي.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كلمته التوجيهية الثمينة بمناسبة عيد الغدير الأغرّ: (اليوم، وبمناسبة الغدير يجب أن يكون الخطاب بمستوى الحدث، وقد قلت ذلك مراراً. فيجب أن يكون التبليغ متناسباً مع حادثة الغدير وبمستواها، لأن التبليغ معناه إيصال الخبر والمعلومة إلى جميع البشر).
وكما نجح أصحاب الشأن في الارتقاء بخطاب التبليغ الخاص بواقعة عاشوراء، وهذا النجاح الكبير يمكن أن نلمسه من خلال وصول تفاصيل عاشوراء الكبيرة إلى العالم أجمع، فإننا مطالبون بجعل خطابنا حول الغدير مقارب إلى مستوى خطابنا العاشورائي على الرغم من التركيز على عاشوراء أمر مهم، فهاتان الواقعتان إحداهما تسند الأخرى مثل جناحيّ الطير الذي لا يمكن له أن يطير بجناح واحد.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (اليوم نرى التبليغ لواقعة عاشوراء منقطع النظير على وجه الكرة الأرضية، ويجب أن يكون الغدير بهذا المستوى أيضاً. علماً أنه يجب أن يكون التبليغ عن واقعة عاشوراء أكبر وأكثر، فعاشوراء والغدير جناحان للإسلام. والطير لا يستطيع أن يطير بجناح واحد).
لابدّ أن يصل الغدير للعالم أجمع
إذاً مثلما يبذل المعنيون جهوداً استثنائية في تطوير الخطاب وتحسينه وتعميمه بخصوص عاشوراء، فإنّ الغدير بما ينطوي عليه من وقائع كبرى ينبغي أن يُدعَم بخطاب التبليغ الذي يتناسب وحجم هذا الحدث المتفرّد في تاريخ الأمة الاسلامية، بل الإنسانية جمعاء، لدرجة أن سماحة المرجع الشيرازي يصوّر هاتين الواقعتين أو المناسبتين بأنهما كجناحي الطير، حيث يطير بهما الإسلام في عالم الهداية والتنوير البشري.
من الواضح أن سماحة المرجع الشيرازي يركّز بصورة قاطعة على أهمية أن يكون خطاب التبليغ حول الغدير أكثر فاعلية وانتشاراً وتأثيراً في المسلمين والعالم، والغريب في هذا الجانب، أن هناك من الشيعة من لا يعرف ما هو الغدير؟ ولم يصله التبليغ في هذا الشأن، ولا يعرف تفاصيل هذه الواقعة، وهذا في الحقيقة خلل كبير في خطاب التبليغ، فإذا كان الشيعي لا يعرف ما حدث في واقعة الغدير، ماذا يعرف الآخرون من الأديان الأخرى، خاصة أن الغدير بمنهجه الإنساني العظيم يهمّ ويستهدف البشرية من دون استثناء، فالمبادئ العظيمة لا تنحصر بفئة بشرية دون أخرى.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع: (يجب أن يصبح الغدير كعاشوراء. فهاتان المناسبتان هما جناحي الإسلام، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد رفع مستوى هاتين المناسبتين إلى أعلى درجات التواتر، لأن الغدير لابدّ أن يصل إلى العالم أجمع. فالغدير ليس كلمة واحدة، بل الغدير كما قال عنه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله هو جُمل كثيرة، حيث قال: فليبلّغ الشاهد الغائب).
وهكذا ينبغي أن تتحول تفاصيل الغدير ومنهجه ومبادئه إلى ثقافة يستلهم منها الجميع حسن الفكر والسلوك ونشر السلام والحرية بين الجميع، لأن منهج الغدير في عمق غاياته يستهدف نشر وتعميم هذه القيم الخلاّقة، لاسيما أن ثقافة الغدير تهدف إلى خير الإنسانية وسعادتها، استناداً إلى النموذج الفذ للتعامل مع السلطة وادارة الدولة.
لذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي في كلمته قائلاً: (يجب أن يكون الغدير ثقافة، وأن تكون ثقافة حرّة من أجل الخير والرفاه، وعندما يكون هذا الأمر مطلباً، يكون مثاله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وحكومته التي قضاها في السنوات الخمس المباركة).
درس في حرية الرأي
عندما نحأول في خطابنا التبليغي حول الغدير أن نصل بحقائق هذه الواقعة إلى العالم أجمع، فإن الهدف الأول هو نشر النموذج الأمثل في التعامل مع السلطة، والتركيز على القيم والمبادئ التي تسعد الناس جميعاً، وهي قيم العدالة والحرية وحماية الحقوق وفتح آفاق العمل المبدع للجميع من خلال منحهم الفرص المتسأوية، وهذه المبادئ هي بعض وليس كل ما يرد في منهج الغدير الذي أراده الله تعإلى نموذجاً للبشرية كي تُسعد وتتطوّر وتعيش في خير ووئام وأمان وإبداع.
إنّ المثال الذي أورده سماحة المرجع الشيرازي عن تهجّم أحد الأشخاص من عامة الشعب، (بمعنى أن هذا الشخص لا يمتلك القوة ولا السلطة) ومع ذلك يتهجّم على شخصية القائد الأعلى، ويتوعّده بالقتل، يحدث هذا أمام الملأ، حيث يقوم مواطن عادي بتهديد رئيس الدولة بأنه سوف يقوم بقتله، ترى كيف سيتعامل أي حاكم في التاريخ الماضي والحاضر مع هكذا تهديد؟، يمكننا جميعاً أن نجيب عن هذا التساؤل لأنفسنا.
ولكن الإمام علي عليه السلام، قائد دولة المسلمين، عندما ألقى القبض على صاحب التهديد وفقاً للقانون، تعامل مع صاحب التهديد بأرقى صور التعامل في إطار حرية الرأي.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: (لاحظوا ما جاء عن تاريخ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كتب الحديث الشريفة. فعندما كان رئيساً للحكومة الإسلامية وهي من أكبر الحكومات الإسلامية في العالم، كان يمتلك زمام أكبر قوّة حكومية، ورد في التاريخ وفي بعض الروايات أن شخصاً (توعّد الإمام بالقتل). في هذه العبارة الصغيرة عالم من المعنى ليس لها نظير في التاريخ. فقد صرّح شخص بأنه يريد اغتيال الإمام عليه السلام، بينما كان الإمام يمتلك كامل السلاح والقدرة والمال. وعندما قبضوا عليه وجاؤوا به إلى الإمام، قال الإمام صلوات الله عليه: (دعوه). فهل لهذا الموقف مثال في التاريخ؟ إنه عالَم من الفضيلة).
إنّ هذا التعامل القيادي الفريد والخلاّق، لا يمكن أن يقوم به حكّام العصر الراهن، ممن تجعله السلطة (ذات) متجبّرة متضخّمة تنظر إلى عموم الناس بأنهم (حشرات) أمام سلطته وما يمتلك من نفوذ وسلاح وصلاحيات، لذلك ينبغي التركيز في خطاب التبليغ على منهج الغدير ومبادئه، والهدف الدائم هو سعادة الإنسان في كل مكان، ومبادئ الغدير لا تعني الشيعة وحدهم ولا المسلمين فقط، إنما هي مبادئ سلوك إنساني قمّة في الارتقاء مع السلطة وكيفية إدارتها بما يحفظ حقوق الجميع بلا استثناء.
نقرأ حول ذلك ما قاله سماحة المرجع الشيرازي متسائلاً: (نسأل: هل وصل إلى العالم ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام وهو في منتهى قوّته وقدرته، وما فعله مع كل ما يملكه من وسائل، عندما هدّده شخص بالقتل وعفا عنه وقال دعوه؟).
إنّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة ولكنها متروكة لأصحابها بطبيعة الحال، ولكن ما ينبغي التركيز عليه دائماً هو مسؤوليتنا على جعل الخطاب في التبليغ الخاص بالغدير ذا مستوى يرتقي إلى منهج الغدير المتفرّد.