شبكة النبأ: بعد الرحلة الشاقّة التي قطعها العراق وشعبه مع الاستبداد والحرمان والدمار، بات أمراً ملزماً أن يشعر الجميع ممن يهمّهم أمر هذا البلد، بأن مرحلة البناء والتعويض قد بدأت، وأن رحلة العذاب قد شارفت على نهايتها، لذا ينبغي على أهل الشأن والمهتمّين بحاضر ومستقبل العراق، أن يمسكوا بزمان المبادرة وأن تبدأ عملية بناء البلاد ماديّاً ومعنوياً، على أن يشمل ذلك تغيير الإنسان وجعله كائناً عملياً مسؤولاً تقع عليه أعباء النهوض بالبلد في مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها مرحلة بناء العراق الجديد.
إنّنا أبناء هذا العراق، وهو بيتنا، وعائلتنا، أبناؤه أبناؤنا وأخوتنا، وهؤلاء يستحقّون أن نتفاعل معهم، ونطلق المبادرات المسؤولة، حتى يكون بمقدور الجميع البدء بالمرحلة الجديدة التي تتطلّب مسؤولية من طراز خاص، تشبه رجلاً ناجحاً يتعامل مع أسرته وفق مبدأ الشعور بالمسؤولية لتحقيق النجاح بأقصى درجاته، نعم مرحلة البناء هذه تتطلّب شعوراً بالمسؤولية من طراز جديد.
يقول المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في محاضرة قيّمة لسماحته: (يلزمنا جميعاً أن نمسك بزمام المبادرة، ونعمل بنفس الدرجة من المسؤولية التي نحسّها بإزاء أسرنا وأبنائنا، لضمان مستقبل العراق).
لا أحد من العراقيين يمكن أن يُعفى من هذه المسؤولية، على الرغم من أن هذه المسؤولية تبدو خاصة بالحكومة ومؤسساتها، ولكن قضية بناء الحاضر والمستقبل هي أيضاً مسؤولية عامة الناس، فالجميع يقع عليه عبء متساوٍ في هذا المجال، إذ من غير الإنصاف أن لا نتعامل بمسؤولية عالية وحاسمة في مجال البناء، لاسيما أن الأمر يتعلق بأمرين أو بعدين زمنيين متعالقين مع بعضهما، ونعني بهما الحاضر والمستقبل، حيث تتطلّب عملية البناء حضور المسؤولية بأعلى درجاتها.
لذا يرى سماحة المرجع الشيرازي بأن: (المسؤولية، هي مسؤولية عامة الناس، ولكن في الوقت الحالي هي مسؤولية خاصة، وقسمٌ منها مسؤولية عامة بالنسبة لعراق اليوم والمستقبل).
مشكلات متناسلة كالوباء
لا أحد يفرش للعراقيين طريق البناء بالورود، فالبناء يعني التضحية والمزيد من الإيثار، وتقديم أقصى ما يمكن من الجهود العملية والتنظيمية والتمويل، ولكن هذه الشروط قد يصعب تحقيقها في ظل ارتباك الأوضاع التي يمرّ بها العراقيين، لاسيما ما يتعلّق بالإرهاب ومخطّطات الأعداء التي تحيق بهذا البلد الذي لم يعرف الاستقرار ولم يذق طعم الأمن والسلام، ولم يهنأ شعبه بخيراته وثرواته الوفيرة، فبقي فقيراً محروماً رغم غناه وكثرة ثرواته.
إنّ المشهد المعقّد الذي يرسم صورة الأحداث في العراق، يعطي للمهتم والمتابع تصوّراً واضحاً عن طبيعة الأوضاع المعقّدة التي يعيشها، في ظل تكالب الأعداء عليه، وزعزعة أمنه وتدمير بناه التحتية وإيقاف عجلة الحياة فيها، حيث تم العبث بالقطاّع الزراعي، وتمّ تدمير الصناعة، وتحول العراقيون إلى شعب استهلاكي محض، حيث توقّفت الحياة الإنتاجية على نحو كلّي تقريباً، وهذا يفسح المجال للسلع الأجنبية تتدفق على أسواقه، وهكذا باتت القضية معروفة تماماً لأبسط العراقيين إدراكاً، لقد دمّروا الكهرباء وأفسدوا الصناعة وأوقفوا الزراعة لكي يصبح العراق سوقاً مفتوحة لمنتجاتهم، هذا جانب من المشهد المعقّد الذي يجتازه العراق الآن.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (في الوقت الحاضر تضاعفت الأزمات بالنسبة إلى كل فردٍ عراقي.. والجميع يعلم سواءٌ من طريق وسائل الإعلام العامة، أو من طرقهم الخاصة، أن العراق يمرّ بأوضاع معقّدة جدّاً، لا يعلم مداها ومنتهاها إلاّ الله).
وهكذا بات يعاني العراق من أزمات اقتصادية فضلاً عن السياسية والأمنية والصحيّة والتعليمية وسواها، لقد حاولت الجهات والدوائر والدول التي لا ترغب بعراق قوي معافى، أن تدخل العراق في دوامة الأزمات المتلاحقة، وقد نجحت في هذا الهدف، وصار الشعب مشغولاّ بهذه الأزمات، حتى بات غير قادر على الوقوف مرّة أخرى على قدميه، وكل مرّة يحاول فيها النهوض يتحرّك أعداؤه الطامعون بخيراته بمعونة الفاسدين كي يدخلوا الشعب في أزمات جديدة لاسيما شريحة الشباب.
علماً أنّ هذه الأزمات تشكّل امتداداً لأخرى سابقة، وهكذا تصبح اليوم أزمات معقّدة، تهدف إلى إيقاف عجلة تقدّم العراق، لسبب بات واضحاً للجميع، فالطامعون بهذا البلد وخيراته لا يريدون له النهوض ولا لشعبه بالتحوّل من شعب مستهلك إلى منتج، فيصنعون له الأزمات تلو الأخرى.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي في المصدر نفسه: (لقد ابتلي العراق اليوم – رجالاً ونسـاءً وشيباً و شباباً – بأزمةٍ مزدوجة؛ فهو منذ خمسين عاماً ينتقل من أزمةٍ إلى أزمة، ومن أمر شديد إلى أمر أشدّ، ومن صعب إلى أصعب).
ما هو طريق الخلاص؟
مع كل ما يُحاك بالضدّ من إرادة هذا الشعب، تنتج مأساة يروح ضحيتها عراقيون أبرياء، كثيرون يفقدون دماءهم وأرواحهم، ويخسرون أملاكهم، ويتم تدمير أرزاقهم وبيوتهم، وهكذا كان العراقيون ولا زالوا مستهدّفين، يتساوون في ذلك مع أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين استهدفهم الظلم والطغيان، وهو نفسه ما تعرّض له العراقيون، ولا يزالون يتعرّضون له حتى اللحظة، أما الأسباب فهي واضحة ومعروفة للجميع.
لذا على العراقيين أن يصنعوا طريق الخلاص بأنفسهم، وأن يأخذوا العبر والدروس في مسيرة أئمة أهل البيت الذي يمكن من خلالها أن يستدلّ هذا الشعب المكافح على طريق الخلاص.
لذا ينصح سماحة المرجع الشيرازي بهذا الأمر بوضوح، عندما يقول سماحته: (الآن تضاعفت مأساة الشعب العراقي، وفي الحقيقة أن هذه المأساة لها نظير في تاريخ الأئمة المعصومين سلام الله عليهم؛ ولذا يجب علينا أن نأخذ الدرس من أئمتنا سلام الله عليهم، ونتعلّم منهم، ماذا علينا أن نفعل؟ وما هو طريق الخلاص؟).
إنّ طريق الخلاص واضح لمن يسعى إليه من العراقيين، حيث يتّضح بأنّ بناء الاقتصاد العراقي وفق أسس حديثة يمكن أن ينقذ العراقيين من أوضاعهم، كذلك لابد أن تكون هنالك إرادة سياسية تضع حدّاً لجميع المحاولات التي تسعى لإبقاء الشعب حبيساً داخل النمط الاستهلاكي، ولابدّ أن تكون هناك خطوات عملية من حيث التمويل والاستثمار والنهوض بالبلد، والتخطيط السليم لتحويل مساره الاستهلاكي إلى إنتاجي عملي علمي يستفيد من تجارب الأصدقاء وهم كثر في عالم اليوم.
على أن العمل والبناء ينبغي أن يتّخذ مسارين، الأول مادي وهو واضح ولا يحتاج إلى وصف أو تفسير والثاني، معنوي روحي إيماني يقيني تنظيري، يبني الذات العراقية ويعيد إليها أمجادها من بطون التاريخ، ليستحضر وجودها في الواقع الراهن، وهكذا ينبغي أن تمدّ الأيدي والتمويل للعراقيين عبر صناديق القروض الحسنة، حتى يتمكّن العراقيون من تغيير حياتهم، والوقوف على أرجلهم وضرب كل الأفكار والمساعي التي تهدف إلى تجميد طاقاتهم كي يستأثر الأجنبي بخيراتهم وثرواتهم.
ينبغي أن يسعى من يحبّ العراق والعراقيين إلى مساعدة من تهدّم داره فوق رأسه وعائلته، وأن يعاونوا العراقيين على ترميم الخراب الذي ألحق بهم، على أن يشمل ذلك قلوبهم وأبدانهم أيضاً، فالحاجة إلى البناء المادي والمعنوي للعراقيين باتت في أقصى الحاجة لها.
لذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي بأنّ: (العراق يحتاج إلى المئات من صناديق القرض الحسن لإسعاف الملايين من المعوزين، الأمر الذي يحتاج إلى تخطيط وعمل سريع جدّاً؛ فهناك قد شمل الدمار والخراب كل شيء؛ القلوب والأبدان، فضلاً عن الأبنية والممتلكات).