شبكة النبأ: لكلِّ إنسان روحٌ وجسد، الأولى تمثل الجانب الغيبي الإيماني أو غير الملموس، أما الجسد فهو العنصر المادي الذي يقابل الروح، ومن خلال هذين الطرفيْن يتحقق التوازن الطبيعي للبشر، لهذا فأيّ اختلال يطال أحدهما سوف يؤثر على وظائف الثاني وأدائه، وينعكس على تفكير البشر وسلوكه.
ويرى المختصون بأنَّ الروح هي كيان خارق للطبيعة، غالباً ما يكون ذو طبيعة غير ملموسة على غرار كيانات مماثلة أخرى كالأشباح والملائكة. يحمل المصطلح طابعا دينيا وفلسفيا وثقافيا يختلف تعريفه وتحديد ماهيته في الأديان والفلسفات والثقافات المختلفة، ولكن هناك رأي سائد عبر كثير من الأديان والاعتقادات والثقافات البشرية على أن الإيمان بوجودها يجسد مفهوم المادة الأثيرية الأصلية الخاصة بالكائنات الحية.
واستناداً إلى بعض الديانات والفلسفات، فإن الروح مخلوقةً من جنسٍ لا نظير له في الوجود مع الاعتقاد بكونها الأساس للإدراك والوعي والشعور عند الإنسان. ويختلف مصطلح الروح عن النفس بحسب المعتقدات الإسلامية، فالبعض يرى النفس هي الروح والجسد مجتمعين ويرى البعض الآخر إن النفس قد تكون أو لا تكون خالدة ولكن الروح خالدة حتى بعد موت الجسد.
الروح خَلْق من أعظم مخلوقات الله شرَّفها وكرَّمها غاية التشريف والتكريم فنسبها لذاته العلية في كتابه القرآن، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ/ سورة الحجر 29). ومن جلالة وعظمة هذا التشريف لهذا المخلوق أن الله اختص بالعلم الكامل بالروح فلا يمكن لأي مخلوق كائن من كان أن يعلم كل العلم عن هذا المخلوق إلا ما أخبر به الله، قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا/ سورة الإسراء 85).
أما الجسد فهو النظير أو المقابل في المعادلة المتوازنة بين المدرَك والملموس، فهو يمثل الجانب المادي الذي يثبت وجود الروح، فيما تساعد الروح الجسد على البقاء حيّاً، وتمدّه بالجانب الإيماني الغيبي، ويمكن أن تعتّل الروح كما يمرض الجسد، وقد يكون المرض الروحي أكثر خطورة بكثير من خطر المرض الجسدي، فالأخير واضح مرئي مشخَّص ويمكن معالجته بالمضادات الحيوية أو العشبية وصولا إلى الشفاء التام، أما المرض الروحي فهو أكثر تعقيدا كونه يتسّم بالغموض ويحتاج إلى جرعات إيمانية قوية لتحقيق الشفاء.
هل يمتلئ محيطنا بالمحرمات؟
مشكلة المرض الروحي تكمن في تخطّيه لحدود الأذى الشخصي، أي أنه يتسبب بأذى قد يلحق بالآخرين والمجتمع، أما المرض الجسدي فهو يؤذي حامله بالدرجة الأولى، لهذا يركّز الدين والأخلاق على وجوب معالجة المرض الروحي، حتى لا تكون هناك فرصة لشيطنة الإنسان وأفعاله، ولهذا الجميع مطالَبون بالاهتمام بمكافحة المرض الروحي الذي قد يدفع الإنسان في مزالق منحرفة وبعضها خطير.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتاب (من عبق المرجعية): (نحن نرى محيطنا مليئاً بالمحرّمات, وذوينا لا يؤدّون الواجبات, ولا نكترث، فلو أن أحداً من أبنائنا مرض وزادت سخونته نعمل كل شيء لطرد هذه السخونة، أما سخونة المرض الروحي، وضعف العقيدة والإيمان والسرطان الذي يأكل الإيمان فلا نبالي به).
المسؤولية فردية أولا، الإنسان مسؤول عن نفسه فيما يبدر منه من أقوالٍ وأفعال، لهذا هو مطالب بمراقبة نفسه وردود أفعاله تجاه الآخرين، فالأعم الأغلب أن ما يقوم به الإنسان في محيطه سوف يؤدي إلى تداعيات معينة، منها ما هو مفيد وجيد، وهذا لا غبار ولا اعتراض عليه، لكن هناك من ينسى حدود الآخرين، أو يتغافل عنها، وخصوصا في مجال المحرّمات، فقد تسول نفس المسؤول له بالاختلاس أو السرقة، وهذا ينتج عن خلل في الإيمان، وبالتالي يحدث الاختلال الروحي الجسدي، وهو ما يحذّر منه العلماء والأخلاقيون.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (على كل فرد منّا أن ينظر ما هي وظيفته تجاه نفسه وتجاه الآخرين؟ وما هي الواجبات المترتبة عليه؟ وما هي النواهي والمحرّمات التي ينبغي له الانتهاء عنها؟).
السعي لتحصين الفرد يبدأ بتحصين الروح، والاهتمام بمعالجتها ينبغي أن لا يقل عن اهتمام الإنسان بمعالجة جروحه الجسدية، فقد يكون جرح الجسد ظاهرا، ويُصاب صاحبه بالذعر ويهرع للطبيب كي يتلقى العلاج اللازم، لكنه ربما لا يرى مرضهُ الروحي، وقد لا يعبأ به، ولا يهتّم له.
استفدْ من تجاربك في الحياة
في حين هو لا يقل خطورة عن مرض الجسد إن لم يتفوَّق عليه، الحل يكمن في سعي الإنسان لمكافحة اعتلال الروح عبر خطوات معروفة تدعم إيمان الإنسان، منها تلاوة القرآن الكريم، وقراءة الأدعية، وحثّ النفس على الاحتماء المستمر بالأخلاق والقيم التي تحمي الإنسان من الانزلاق في الانحراف وإهمال حقوق الآخرين.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه) ينصح بما يلي: (على كل فرد منّا, سواء كان رجلا أو امرأة، شابّاً أم شيخاً، من أهل العلم أم كاسباً, أن يحصل على ملكة تحصّنه من ارتكاب المحرّمات أو التخلّف عن الواجبات، ثم عليه بتعليم الآخرين حسب مقدرته ومعرفته).
يرتبط المرض الروحي بالسلوك الفردي، ولا يمكن أن تكون الروح المحصَّنة بالإيمان مؤذية أو منحرفة، والعكس يصحّ، لهذا نحنُ أمام مسؤولية أخلاقية بالدرجة الأولى، بمعنى حين أعمل على توفير الدعم الروحي اللازم لشخصيتي، فإنما أقوم بما يخدمني أنا أولا، ثم ينعكس ذلك على دوري في المجتمع، وشعوري المحمي من التجاوز على حدود الآخرين.
لهذا يدعونا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) إلى (التصرّف بالنحو الصحيح)، ويؤكّد سماحته بقول واضح وحاسم: (استفدْ من حياتك بصورة صحيحة).
من العوامل والخطوات التي تساعد الإنسان على مكافحة المرض الروحي، هو قبوله لملاحظات الآخرين وآرائهم حول شخصيته وردود أفعاله وسلوكياته، بمعنى أكثر دقة، نقد الآخرين لشخصية الإنسان، ليس هنالك ما يعيب في هذا الأمر، خصوصا إذا صدر بحسن نيّة، على شكل نصيحة خالصة، فجلَّ من لا يخطئ، سوى المعصوم، فالناس معرّضون للخطأ، سواء لأسباب روحية أو حتى سلوكية ماديّة، فلماذا التطيّر من ملاحظات الآخرين حول شخصياتنا وآرائنا.
على العكس من ذلك، من يقدّم لي ملاحظة تساعدني على الانتباه إلى خطأ أو لفظ أو سلوك ما، فإنه صاحب فضل، يريد لي أن أكون متوازنا في نشاطي الاجتماعي العملي وسواه، فالأصحّ هو قبول ما (يهديه الآخرون لنا من عيوبنا) ومن ثم المباشرة بتطوير قدراتنا الروحية والجسدية على مواجهة تلك الأخطاء، فهذا التصرّف يعد من أفضل وأهم خطوات مكافحة المرض الروحي.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يدعونا لمعالجة هذا الأمر بقوله: (لندع الآخرين ينقدوننا ونشجّعهم على ذلك، ثم نطوّر قابلياتنا بالاستفادة من وجهات النظر الصحيحة من بينها).
على أننا كبشر، يجب أن نعي المشكلة الكبيرة التي نواجهها في إطار مكافحة المرض الروحي، وهي عجزنا عن رؤية واكتشاف هذا المرض عندما يتعلق الأمر بأنفسنا، في حين أننا سرعان ما نراه عند الآخرين، بمعنى أننا بارعون في رؤية عيوب الآخرين، لكننا عاجزون عن تشخيص أمراضنا الروحية وعيوبنا المختلفة!.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه): (الإنسان بطبعه حسن الظن بنفسه؛ ففي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنه قال: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه)، أي أن أحدنا يرى حتى الشعرة الصغيرة في عين أخيه، أي يرى عيوب الناس جيّداً، لكنه لا يرى عيوب نفسه مهما كانت كبيرة).
أخيرا يتّضح لنا بشكل جليّ عجز الإنسان عن رؤية عيوبه إلا ما ندر، لذلك من الأفضل أن نجعل من الآخر مرآة لنا، نكتشف من خلاله عيوبنا وأمراضنا، لاسيما حين يتعلق الأمر بأمراض الروح الخفيّة، وفي هذه الحالة، أي إذا وعينا هذه الأمراض واكتشفناها بأنفسنا أو من خلال الآخرين، فإننا يجب أن نباشر بإصلاحها عبر المكافحة الجادة بعد معرفة الخطوات اللازمة للعلاج وتطبيقها بقناعة تامّة.