LOGIN
المقالات
alshirazi.org
"المشروع الثقافي في فكر المرجع الشيرازي دام ظله"
رائد الفقاهة والثقافة
رمز 62
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 11 يونيو 2012
كتب: الشيخ حسين فاضل الخليفة ـ البصرة

من أهم الصّفات التي تميّز بها فقهاء الشيعة هي معرفتهم الشديدة بالزمان واطّلاعهم الواسع على الحوادث وعمق نظرتهم الثاقبة للأمور؛ من أجل تثقيف المجتمع وإخراجهم من الظلمات الغربية إلى الأنوار الإسلامية، ويكفي المرء منّا أنْ يلقى نظرةً سريعة على حياة الفقهاء ويحقّق في دقائق أمورهم ليلاحظ ذلك بنفسه. ومن بين هؤلاء الفقهاء الذين خدموا الثقافة الإسلامية يبرز إليك الراعي الأول للثقافة الإسلامية والمرجعية الثقافية المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله.

فإن مَن يطالع فكر المرجع الشيرازي ويطلّع على مشاريعه الثقافية يجد له رأياً متميزاً في ميدان الثقافة، ومجال الفكر ومناهج التربية وتغير الخلفية الثقافية والمباني الفكرية، كي تعيد صياغة شخصية الإنسان، وتمكّنه من تغيير الواقع الخارجي في الحياة. يقول سماحته في كتابه العلم النافع :

(إن مسألة الثقافة من أهم المسائل في كل أمة وحضارة، وقد يصح ما يقال: بإن العالم يدور على عجلة الاقتصاد والسياسة، ولكن الأصح من ذلك هو بأنّ الثقافة هي التي توجّه الاقتصاد والسياسة، فبقدر ما يحمل الفرد من ثقافة وعلم في كل المجالين، فأنة لا يخسر ولا يغلب.

إن الثقافة الصائبة وحدها القادرة على مواجهة وتصحيح ما نراه من ثقافة ضحلة في عالم اليوم، لأنّ القوة أو المال وغير ذلك يعجز عن مواجهة الثقافات وتغييرها، إذ لا يقارع الثقافة إلاّ الثقافة، فقد يهزم التاجر زميله التاجر, والسياسي نظيره, ولكن الفكر والثقافة لا يهزمان بالمال أو القوة السياسية أو العسكرية، بل لابد لمن أراد خوض الميدان الثقافي الهادف إلى التغيير أن يكون متسلّحاً بسلاح الفكر والثقافة، ومن هنا كان العمل الثقافي من أهم الأعمال في المجتمع).

وهذا هو عين التجديد المنهجي في ميدان الثقافة؛ لأنها تؤكد على ضرورة إحداث حرث ثقافي عام في الأمة، لتثير دفائن العقول وكوامن الطاقات، لكن في الوقت نفسه يجعل لهذا الحرث الثقافي شروط لكي تأخذ الثقافة إطارها الشرعي, فسماحته يقول في كتابه العلم النافع:

(لما كان العمل الثقافي يُعد من أهم الأعمال، فان ذلك يستوجب توفّر ثلاثة شروط لضمان نجاحه وتحويله إلى عمل مستمر:

1/ التأكيد بأن فكر أهل البيت عليهم السلام هو النور والمشعل الوضّاء، وأنّ هناك الملايين من البشر محرومون منه.

2/ إذا أردنا لأعمالنا أن تحقّق أهدافها، فلابد أن تكون مطابقة للطريق الذي رسمه الشرع لنا.

3/ ضرورة العمل وفق أنجح الأساليب وأجمل التعابير، تماماً كما هو الحال بالنسبة لأساليب الأدعية الواردة عن أئمتنا المعصومين عليهم السلام, حيثُ روعة البلاغة والفصاحة وجمال التعبير، فضلاً عن سمو المعنى).

وبهذه الشروط رسم المرجع الشيرازي خارطة الطريق إلى ميدان الثقافة الإسلامية وخلودها على مدى العصور؛ ولذا فقد طبّقها على أرض الواقع من خلال المشاريع الثقافية التي أوصلها إلى العالم الشرقي والغربي، ولعل من أبرز تلك المشاريع, المقسّمة من عدّة جوانب, وأهمها هي:

1: الجانب التعليمي:

اهتم المرجع الشيرازي بالجانب التعليمي ورفع المستوى التعليمي والثقافي للفرد المسلم وذلك من خلال تأسيس مدارس ودورات دينية؛ هدفها تكوين مجتمع متزوّد بالثقافة الإسلامية, حيث يقول في كتابة العلم النافع:

(إننا بأمسّ الحاجة إلى تعبئة علمية لمعرفة كثير من الأحكام الشرعية وبالأخص تلك التي هي محل ابتلائنا، وهكذا الأمر في مقام الهداية والإرشاد وتعليم الأحكام، ومواجهة أصحاب الديانات والمذاهب الباطلة، فهذا كله يعدّ من الوجبات العينية التي يجب على الفرد المسلم السعي لتعلّمها).

فهو بهذا الكلام يرى الحاجة الضرورية في وقتنا الحاضر لمعرفة الثقافة الإسلامية، ولاسيما في جيل الشباب فهو ينظر إليهم نظرة أبوية؛ لذا أراد أنْ يحصّنهم بالثقافة الإسلامية قبل أن يرموا أنفسهم في أحضان الثقافة الغربية بلغة تواكب العصر والحداثة. يقول السيد في كتابه العلم النافع:

(إن الناس في هذا الزمان, خصوصاً الشباب, ولاسيما طلاّب المدارس العامة والجامعيين منهم، هم بأمسّ الحاجة لمن يقول لهم ما هي الواجبات وما هي المحرّمات، فأكثر هولاء أذهانهم محشوّة بعشرات بل مئات الأسئلة حول الإسلام والتشريع، وبانتظار مَن يجيبهم، الأمر الذي يحتاج منّا إلى علم ودراسة عميقين، فلا يتمكّن كل شخص أنْ يجيب عن أسئلتهم بسهولة ويعرّض نفسه للجواب والخطاب من دون علم، بل إن ذلك يحتاج إلى أرضية وتعبئة علمية).

2: الجانب الاجتماعي:

كلما ابتعد المجتمع عن مبادئ الدين, وانسلخ عن القيم الإنسانية وتجاهل أفراده روح التعاون والتكافل فيما بينهم, طفت إلى سطح الواقع السلبيات الخطيرة وأخذت تكبر وتستفحل, ويصبح من الصعب السيطرة عليها على المدى القريب، بل لا يمكن ذلك إن لم يتعاون الجميع في وضع الحلول المناسبة والتنبّه للمضار والتأثيرات على الأجيال القادمة، ومن هنا اهتم المرجع الشيرازي دام ظله بثقافة المجتمع من خلال تأسيس تلك الهيئات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، فإنّ تلك المؤسسات تكمن أهميتها في خلق مجتمع متطوّر أكثر نضجاً وفعّالية من حيث البناء الأساسي للمجتمع وتأثيره الواضح والفاعل في إيصال الفرد إلى حالة من الفهم والوعي والمزيد من المعرفة والحصانة من التيارات الفاسدة، ففي التقارير تؤكد أنّ من أبرز الدول التي تنخفض فيها نسبة الجرائم على مستوى العالم هي اليابان والسبب في ذلك، أنّ اليابان أكثر دولة تحتضن مؤسسات اجتماعية، ففيها (540) ألف مؤسسة اجتماعية تهتم بالشباب، ومن بينها مؤسسة يُطلق عليها (وحدة الإرشاد والتوجيه للشبّان) تضم (126) ألف عضو متطوّع.

وكذلك (مؤسسة المرأة لإعادة التأهيل) تضم (320) ألف متطوّعة، فكل مشكلة من المشاكل تجد لها مؤسسة متخصّصة بدراستها, ويوضع الخطط لمواجهتها وبالتحرّك اتجاهها، أما في الواقع العربي فلا تجد مثل هكذا مؤسسات إلاّ قليلاً, فالمجتمع بحاجة إلى مؤسسات تُعنى بمختلف القضايا والشؤون الاجتماعية والثقافية المطروحة في المجتمع، ولذا فتأسّست تلك المؤسسات والهيئات برعاية السيد الشيرازي, كما يقول في كتابه من عبق المرجعية:

(عراق المستقبل بحاجة إلى المئات والمئات من المؤسسات والمراكز العلمية والصحّيّة، والاقتصادية والإنسانية وغيرها، فلابد من تعاون الجميع وتضافرهم, كل في إطاره وبحسب وبقدر طاقاته الفكرية والعملية والمالية والاجتماعية، وعلينا أن ننتبه أيضاً إلى قضيةٍ مهمة وهي أنّ في العراق اليوم ملايين الشباب والشابّات بلا زواج, فيلزم التفكير بأمر هؤلاء، وتأسيس لجان لتسهيل أمور الزواج، دون انتظار الغربيين ليأتوا بالملاهي ومراكز الفساد، فعلينا الإمساك بطرف الخيط ونبدأ العمل سريعاً).

3: الجانب التبليغي:

اهتم المرجع الشيرازي بهذا الجانب من خلال دعم وإقامة المجالس الحسينية، فالحقّ يقال بأنه أكثر الفقهاء اهتماماً بمسألة المنبر الحسيني؛ لأنه لا يرى المنبر الحسيني أعواد أو مكان محدّد، بل هو أرقى وأعمق من ذلك، يحمل إنسانية العقيدة المستمدّة قوّتها من الشريعة القرآنية والعترة الهادية، وصوتاً للتنوير وتقويم الأجيال بالفكر والعقيدة؛ لذا يحثّ سماحته على المنبر الحسيني وإقامته في كل مكان, في البيت وفي المدرسة وفي المسجد؛ لأنه يرى المنبر الحسيني الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيراً في نشر المفاهيم الإسلامية، وبيان العقائد النقيّة ومظلومية أهل البيت عليهم السلام، وفضح الطغاة الموتورين من أعداء الرسالة المحمدية الأصيلة سواء الممثّلين ببني أمية أو غيرهم ممن شاركوا في سفك دماء أهل البيت عليهم السلام ومَن معهم من المؤمنين.

فمؤسسة المنبر الحسيني تعتبر من المؤسسات الدينية والاجتماعية والتربوية والتثقيفية التي غطّت مساحة كبيرة من العالم الإسلامي عقيدةً وفكراً وثقافةً وسلوكاً. فالمجتمع الإسلامي ببركة المنبر الحسيني تعرّف على الإسلام الأصيل وعلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام. يقول سماحته في كتابه من عبق المرجعية:

(إنّ مجالس الإمام الحسين صلوات الله عليه استمراراً لأحكام الله تعالى ودعماً لها وللقرآن والسنّة وأهل البيت عليهم السلام، وينبغي الاهتمام بتعظيم الشعائر الحسينية وإقامة مجالس العزاء في الشوارع والبيوت والمحلاّت العامّة وغيرها، فأنّها وسيلة مثلى لجذب الناس إلى الدين ليفتحوا لهم عقولهم ونفوسهم).

ومن هنا أكّد سماحته ديمومة المجالس وعدم الانقطاع عن المنبر الحسيني، وإقامته طوال السنة؛ لأنه يرى أنّ هناك تيارات تدعوا إلى إنهاء المنبر الحسيني من الوجود الاجتماعي، بزعم أنّ المنبر كان في يومٍ مؤثّراً عندما لم تكن وسائل الاتصال، ولذا قالوا: (المنبر الحسيني قد ماتَ، وإكرام الميت دفنه!!).

يقول سماحته دام ظله: (اسعوا لئلاّ يمضي عليكم اسبوع دون أن يكون في بيوتكم ذكر لمصيبة الإمام الحسين صلوات الله عليه, ففي هذا بركة الدنيا والآخرة، ويمكنكم أن تضيئوا مصباح الهداية الحسيني في بيوتكم وذلك من خلال إقامة مجالس العزاء الحسينية العامة، ومَن لم يتمكّن فليقم مجالس العزاء خاصة في بيته، وإذا تعذّر ذلك أيضاً فيمكنه إقامة مجلس عزاء لإسرته فقط مع مشاركة جار أو قريب له).

فسماحته يرى أنّ المنبر الحسيني له دور عظيم في الأّمة، وينبغي دعمه وحمايته، في أصل وجوده لأنّه موروث حسيني. يقول سماحته في كتابه سيد الشهداء صلوات الله عليه:

(ولنعلم بأننا إذا كنّا وفقّنا لإحياء المجالس الحسينية فالفضل في ذلك يعود لآبائنا وأجدادنا وأسلافنا فلنتذكّرهم دائماً، ولنعلم بأننا نحن أيضاً نترك تأثيراً على أجيالنا؛ وذلك بحسب هممنا وعزائمنا في خدمة سيد الشهداء صلوات الله عليه).

4: الجانب الإعلامي:

يحضى الإعلام بإهتمام متزايد من جميع الحكومات والمنظّمات والجمعيات والمجتمعات في العالم لما له من فاعلية وتفاعل وتأثير في الرأي العالم، وإمكانية استعماله كأداة سياسية، واقتصادية واجتماعية وثقافية، وفي مواجهة التحدّيات والأزمات التي تحيط بالبلدان ومواطنيها، ومن هنا سعى المرجع الشيرازي في إيصال الفكر الإسلامي عن طريق الإعلام الفضائي، لأنّ الأعلام الإسلامي يتّسم بالمبادئ والأخلاق والقيم, أو الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أو يعبّر عن الثقافة الإسلامية بكل عناصرها.

يقول دام ظله في كتابه تعظيم الشعائر الفاطمية: (اجعلوا القضيةَ الفاطمية قضيةً عالمية).

ومن تلك التوجيهات التي يؤكّد فيها ضرورة تأسيس القنوات الفضائية لنشر فكر وثقافة أهل البيت عليهم السلام وتعريفها للعالم، وإنطلاقاً من تأكيد سماحته بأنّ الأعداء يحاولون ويسعون إلى إبعاد الناس عن أهل البيت عليهم السلام, بالأخص عن القضية الفاطمية, وذلك بمختلف الوسائل ومنها الإعلامية، انطلقتْ قناة الزهراء الفضائية بتوجيهه المبارك، وكانت من قبلها أوّل قناة شيعية ثقافية تبث إلى العالم (قناة الأنوار الفضائية). فبرعاية المرجع الشيرازي افتتحت أكثر من (10) قنوات فضائية في مختلف اللّغات، وهذه الفضائيات من نِعَم الله على المسلمين، فهي الوسيلة لإيصال صوت الحقّ, صوت أهل البيت عليهم السلام إلى العالم وإلى المحرومين إنطلاقاً من قولهم عليهم السلام: (لو عرف الناس محاسن كلامنا لاتّبعونا).

كما اهتم المرجع الشيرازي بتأكيد جامعية الإسلام لأبنائه على اختلاف مذاهبهم وبثّ فيهم روح الثقافة الإسلامية تحت الراية المحمّدية الأصيلة. فهمومه الإسلامية الكبرى واهتماماته المعرفية، حرّكت قلمه ليسطّر أروع المؤلّفات الخالدة التي تركت أثراً كبيراً في أوساط المجتمع، وأعيد طبع بعضها عشرات المرّات وترجم بعضها إلى كثيرٍ من الّلغات، فهو يكتب ليشحذ العزائمَ والهمم، ويوقظ الضمائر من أجل الجهاد في سبيل الحق؛ لذا بدأت مؤلّفاته تأخذ أبعادها الحقيقة, وبدا تأثيرها واضحاً في جميع البلدان الإسلامية على طريق البناء الديني والأخلاقي، وخلق مساحة كبيرة من الوعي لذي المعنيين بشؤون الثقافة الإسلامية، فيجد المتتبع لإسلوبه تميّزاً عن غيره من الباحثين المعاصرين بطابع خاص انفرد به، وفي هذا الطابع تظهر عظمة شخصية المرجع السيد صادق الحسيني الشيرازي ظهوراً مستقلاً، حيث تلمس في إسلوبه لغة بسيطة تشهد له بعلوّ كعبه، ونزعة دينية قويّة لها خصائصها، ومميزات يمكن أن تمدّنا بالعون على استنباط وجهٍ من وجوه الحياة المستقبلية، فالشيرازي من التنويريين اللذين اختارتهم المسيرة لإنقاذ سفينتنا من الغرق القادم.

إنه رجل مخلوق لزرع الزهور الفكرية في حدائق الأجيال الحسينية، والتخفيف عن الاحتقان العام، وإزالة الألغام عن الدروب القادمة على خطى الأجيال التي ستولد من فكره الرائع؛ لذا أفنى عمره بخدمة هذا الجيل بلسانه وقلمه، وأعماله دون أن يكل، وأنّ حياته تملأ الآذان والعيون، وصفحةُ مجدٍ ناصعة تليق أنّ تكتب بالذهب لا بالحبر على الورق، إنه الأب الروحي والمرشد الحكيم، ورجل الدين والإيمان، والمرجع الذي ملأ الدنيا علماً وعملاً، والفقيه الذي أحدث انقلاباً في عالم الثقافة, آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, رائد الفقاهة والثقافة.