LOGIN
المقالات
alshirazi.org
شهر رمضان والعزم على إنصاف الآخرين
رمز 514
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 21 مايو 2020
شبكة النبأ: شهر رمضان المبارك يشارف على الانتهاء في هذه الأيام، وهو محطة سنوية متجددة يقف فيها الإنسان كي يراجع نفسه وأعماله، وفي المقدمة من ذلك، درجة استجابته للفرائض التي أوجبتها عليه الأحكام الإلهية، وهذه بدورها تحتاج إلى عزم وإرادة حتى تكون النتائج متناسقة مع ما قدّمه الإنسان في هذا الشهر، وهل ينتج عن ذلك إنصاف الآخرين أم لا؟، فما فائدة الصوم إنْ لم تكن نتائجه رفض القبح وإنصاف الناس.

ولعل التركيب التكويني للإنسان، يجعله أمام تحدٍ كبير، يستدعي صلابة وإيمان وعزم ومعرفة، فالصراع بين الإنسان ونفسه ليس سهلا، والشهوات التي تتلبّسه وتدفع به إلى اختراق المحظور على درجة كبيرة من الصعوبة، إن الإنسان باختصار، يخوض صراعا شرسا يضعه في مواجهة نفسه وجها لوجه، فأما أن يكون غالبا وهو ما يتمناه الجميع، أو مغلوبا (لا سمح الله)، لذلك يجب أن يتحلى بالعزم والإرادة والنيّة القوية التي تضع خطواته على طريق النجاح.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته الرمضانية القيمة:

(الإنسان مزيج من العقل والشهوات ويمكنه معرفة الحسن من القبيح والصحيح من الغلط بعقله غالبا، ولكن النفس الإمارة والشهوات تمنعانه من إتباع الحسن، فلابد من عزم وإرادة ونيّة قوية لمتابعة الخير والصلاح).

ومتى ما تمكن الإنسان من كبح شهواته غير المشروعة، هذا يجعله أكثر قدرة على الالتزام بمقتضيات شهر رمضان، ويخرج منه بحصيلة تسرّ القلب وتسعد الروح، وتجعل الإنسان متصالحا مع نفسه وقائدا له في نفس الوقت، كما أن هذا الشهر هو (دورة تدريبية)، يتعلم ويتطوّر فيها الإنسان في الكيفية التي يتعامل فيها مع الناس وكيف ينصفهم، حتى المقرّبين منه كالعائلة أو الأصدقاء أو زملاء العمل.

أهمية الارتفاع بالمستوى الروحي

يحتاج الإنسان لبلوغ هذه النتائج الرفيعة إلى مدد إلهي، وهذا يدعوه إلى الارتفاع بالمستوى الروحي له، من خلال ملازمة تلاوة القرآن وعدم هجره، وكذلك الأدعية التي تمنح النفس درجة عالية من الصفاء والنقاء والسمو على الصغائر والتوافه المادية التي كثيرا ما تهدف إلى تلويث النفس، وتبجيل المادي وتفضيله على الروحي، في حين أن الإنسان يحتاج إلى موازنة روحية مادية حتى يكون منصفا.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول في محاضرته نفسها:

(الفرائض في شهر رمضان عديدة، جزء منها الصيام والصلاة، وهناك على ذمة كل إنسان واجبات تجاه المجتمع والملازمين والأسرة والآخرين. والعمل بجميعها يحتاج إلى عون ومدد إلهي. حتى يوفق الإنسان لتأدية الواجبات وترك المحرمات).

لابد للإنسان أن يصنع واعظا في داخله، وعليه أن يجعل منه دليلا له نحو الخير، ففي حال أصغى له وأنصت لتوصياته، فإنه سوف يكون على الجادة الصواب، وفي حال أهملهُ ولم يستمع إليه، فإن لا ريب سوف يمضي في طريق الضلال وسيكون الخاسر الأكبر، فالواعظ الذاتي قد يكون ضمير الإنسان، ومن لا يعبأ بضميره ويسترشد به وينصت إليه، فإنه سوف يضيع في متاهة الماديات وحبائلها.

لذلك من الأفضل للإنسان أن يسترشد بضميره، حين يحثه على الخير، ويدعوه لإنصاف من يحيط به من الأهل أو الجيران أو الأصدقاء أو كل من يحتك بهم وينشط في مدارهم، كما أن الإنصات للواعظ الذاتي يستلزم عزما لا يلين، فهناك نفوس ترفض الاستماع للواعظ الداخلي، وتحث صاحبها على اقتراف السوء، العزم هنا هو الخلاص من عقبة النفس الأمّارة.

أولوية الإنصات للواعظ الداخلي

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(لابد أن يكون في داخل الإنسان واعظ يعظه لإتباع ما اقتنع به من الخيرات، ويعزم على ذلك).

الله تعالى هو أقرب إلينا من أنفسنا، وما يفرضه علينا لا ريب سيكون لصالحنا، ولكن ينبغي علينا أولا أن نعرف ماذا فرض علينا الله، وكيف نمتثل لذلك، وكيف نؤدي المطلوب على الوجه الأجدى؟، إذا تحقق شرط المعرفة، سوف تأتي خطوة مهمة أيضا، إنها خطوة الامتثال لما يريده الله منا، وهذا لن يتحقق بسهولة، بل سوف يدخل ذلك في دائرة الصراع بين الإنسان ونفسه.

العزم هو الحل، فبعد معرفة شرائط الله، ليس أمام الإنسان سوى إلزام نفسه بالقبول والتنفيذ، وهذا بدوره في غاية الصعوبة، فالأمر يتطلب استعانة قوية ومددا إلهيّا، يعين الإنسان على الالتزام بإنصاف الآخرين وإنصاف نفسه وذاته أيضا، فالعائلة تستحق أن ينصفها الأب أو ولي الأمر، والمسؤول حريّ به إنصاف من يقع في دائرة مسؤوليته، والمدير عليه أن يتحلى بإنصاف مرؤوسيه.

ليس هناك من هو مستثنى من إنصاف الآخرين، بل وإنصاف نفسه، وهذا لا يتحقق ما لم تلتقِ المعرفة مع العزم ومن ثم التنفيذ، وكل هذه لا يمكن أن يتم من دون التوجّه الصميم إلى الله تعالى، كي يعين الإنسان على إنجاز مهمة الإنصاف التي تزيد من نقاء النفس وتسعد الروح، وتجعل الإنسان متصالحاً مع نفسه.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(لابد أولا من معرفة ما فرضه الله علينا والعزم على امتثال ذلك. ونستعين بالله عزّ وجل لتوفيق أداء ما فرضه الله علينا).

يستوى القوي والضعيف في الاستعانة بالله، لكن الضعيف يكون أكثر حاجة من غيره في طلب العون كي تتحقق أهدافه، وإذا كان الهدف هنا هو إرضاء الله أولا ومن ثم الضمير، فهذا يبدو عسيرا إن لم يكن مستحيلا على الإنسان الضعيف، لذا يأتي دور العزم مجدّدا، فهو الكفيل بمنح الإنسان قوى مضاعفة كي يمضي قُدُما نحو مقاصده وأهدافه.

حتى الإنسان القوي روحيا، لا يمكنه الاستغناء عن إعانة الله له، ذلك أن النفس إذا انفردت بحاملها، وزيّنتْ له مغريات الدنيا، واستدرجته إلى حلبتها، فإنه قد يكون عرضة للسقوط في فخ الإغراء الدنيوي، لهذا فإن القوي والضعيف سيان في طلب المدد الإلهي، على أن يسبق ذلك عزم وإرادة يتحقّق من جدارتها وقوتها الإنسان نفسه قبل الإقدام على طلب العون الإلهي.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك في قوله:

(الإنسان الضعيف يحتاج إلى معين لتحقق مقاصده، وهذا بعد العزم على ذلك، فالاستعانة بالله لابد أن تكون بعد العزم والإرادة).

لابد أن يتنبّه الإنسان إلى ركيزة في غاية الأهمية، لاسيما ما يتعلق برفع منسوب الروحي فوق المادي، أو جعل التوازن بينهما متحقّقا، هذه الركيزة تمّ ذكرها فيما سبق من كلام، عليه أن يعزم عزما قويا، ليس اعتياديا، في تأدية ما يطلبه الله تعالى من الإنسان كي يكون صالحا وقادرا على الإنصاف، كون الأخيرة قيمة أخلاقية صعبة المنال، لكنها ليست مستحيلة، والعزم القوي المدعوم بالنية الصادقة الراسخة، تمهد الطريق للإنسان كي يكون منصفا، وشهر رمضان محطته المناسبة لقطف الثمار الناضجة.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(إذا عزم الإنسان عزما قويا فسوف يوفق أن يأتي بالفرائض العديدة التي فرضها الله عليه. ولكن بدون العزم لا يوفق إلا لقليل منها).

ونحن نودّع شهر رمضان الكريم، سوف نشعر بالوحشة، والشوق لأيامه ولياليه وكراماته، لكننا يجب أن نخرج بحصيلة من هذا الشهر المبارك، وعلينا إجراء مراجعة دقيقة لاستخلاص النتائج، وسبكها في ذاكرتنا كي لا تغيب الدروس والعبر التي قطفناها من الصيام، فهل سوف ننصف الآخرين وننصف أنفسنا؟