شبكة النبأ: (الحياة الشخصية للقائد أدقّ مدرسة للأجيال المتمسّكة بذلك القائد) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
قد يفوت بعض القادة، وحتى بعض المسؤولين الكبار، بأنهم نماذج للناس الأقل منهم منصبا ومسؤولية، بل قد لا يعرف بعضهم بأنهم محطّ أنظار الناس جميعا، فما يقوله القائد بالنسبة للشعب، ليس كما يقوله الإنسان العادي، وما يقوم به القائد من أفعال، أو أعمال وسلوكيات، ينظر إليها المواطنون على أنها أفعال صادرة من نموذج قيادي، ولذلك يحرص الناس على تقليد قائدهم، أو مسؤولهم.
وهناك قادة يفهمون تماما بأنهم نماذج لشعوبهم، لكنهم مع ذلك لا يبالون في طبيعة أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم، فنراهم يجنحون نحو الظلم والاستبداد أو الفساد، مما يؤدي إلى إلحاق أضرار فادحة بحقوق، وهذا يؤدي إلى نوع من العداوة بين الشعب والقائد غير المبالي بحقوق الناس، مما يدفع به إلى حماية سلطته بكل الأساليب والوسائل بغض النظر عن كونها مشروعة أو عكس ذلك.
من هنا فإن نجاح الشعب، أو فشله، غالبا ما يتم ربطه بالقائد أو الحاكم وحكومته، وينسحب هذا إلى ما هو أدني من الدولة، فالمنصب القيادي يمكن أن يكون أقل من رئيس أو حاكم دولة، مثل رئيس المؤسسة أو الدائرة أو المصنع أو الجامعة وهكذا، هؤلاء أيضا يمثلون نماذج لمرؤوسيهم والعاملين تحت أمرتهم، فإن كان المدير أو الرئيس نموذجا جيدا، تحقق النجاح لدائرته على يديه.
وفي حال فشل الشعب في مواكبة التطور العالمي، أو فشلت الجامعة في مواكبة التطورات العلمية، أو فشلت الدائرة الرسمية في أداء أهدافها، فإن القائد، المدير، الحاكم هو الذي يتحمل الفشل، كونه لم ينجح في أن يصبح نموذجا جيدا لمن يقودهم، سواء في الدولة أو أية مؤسسة أو دائرة أخرى.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام):
(أعمال القائد تكون درساً للشعب، ومنهاجاً للأجيال، ولذلك كان القائد متحملاً لما يمارسه الشعب نتيجة تعلمه منه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر).
وبهذا فإن جميع القادة، والمسؤولين والمدراء بمختلف أصنافهم ومهامهم، يجب أن يدركوا قيمتهم الشخصية عند الآخرين، وعليهم أن يعرفوا بأن الناس تنظر إلى سلوكهم الشخصي بطريقة تختلف عن نظرتهم إلى المواطن العادي، وكذا الحال بالنسبة لأقوالهم ووعودهم وما يقطعونه من عهود للناس، فليس مقبولا من السياسي أو المسؤول أو الحاكم أن يعد ويتعهد ثم يحنث بعهده.
لا للتنصّل من مسؤولية الوعود
التبرير أو محاولات التنصل من المسؤولية، لن تجدي نفعا، لذلك فإن الحل يكمن في بناء شخصية القائد لنفسه، وحرصه على هذا الهدف، والعمل على تمتين صفاته وأخلاقياته وتجويد أفكاره وقراراته، وبهذه الطريقة يكون ضامنا لتأييد الشعب، كما أنه يصبح نموذجا حيّاً يتعلم منه الناس حسن السلوك، والالتزام بالوعود والعهود التي يقطعها على نفسه.
ولعل أهم ميزة ينبغي على المسؤول الحاكم أو سواه، يتحصّل عليها وينميها في شخصيته، هي الزهد والإيمان، فالحاكم أو المسؤول الزاهد بامتيازات السلطة ومغريات الدنيا، لابد أنه علّم نفسه جيدا وبنى شخصيته البناء الصحيح المرتكز على الزهد والإيمان، والابتعاد الكلي عن الاستبداد والغرور.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(الحياة الشخصية للقائد أدق مدرسة للأجيال المتمسّكة بذلك القائد، ولهذا كان من سياسة أمير المؤمنين عليه السلام بناء حياته الشخصية على الإيمان والزهد).
في التاريخ السياسي الإسلامي هناك نماذج قيادية خلّدتها حكمتها في إدارة الدولة، وفي الحفاظ على حقوق الناس، وقد قدّمت النموذج المطلوب للناس البسطاء، أولئك الذين يحتاجون إلى شخصية يتشبهون بها، ويسيرون على خُطاها، الإمام علي عليه السلام، الحاكم الذي نظر إلى السلطة على أنها تكليف وليس تشريف، وأنها واجب أخلاقي وشرعي، قبل أن تكون امتيازات ومنافع.
لقد كانت هذه الشخصية الإسلامية القيادية فريدة من نوعها، لم تستطع المغريات بمختلف أنواعها، أن تجرّها إليها، وقد كان الزهد بالدنيا وبالسلطة وبمغرياتها السلاح الذي حارب به الإمام علي المغريات، وحرص أشد الحرص على أن يبني شخصيته ويدعمها بمقومات النجاح، بما يجعلها نموذجا من طراز خاص، يتعلّم منه الناس ويسيرون في هدي خطواته وأخلاقياته وأقواله وسلوكياته ومبادئه.
فكانت السلطة في نظره صفرا على الشمال من حي القيمة، لكنها مهم من حيث الحفاظ على حقوق الناس، ونشر العدل فيما بينهم، وتقليص الفقر والتفاوت الطبقي إلى أدنى حدوده، كذلك لم تغرهِ القصور الفخمة ولا الملابس الفاخرة، ولا كل المظاهر المادية المغرية، فبقي القائد المؤمن الذي يلبس مثل أبسط الناس ويأكل مثلما يأكلون، ويفي بما يَعِد به الأمة.
الزهد من مقومات الحاكم الناجح
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، أكدّ هذا المنحى للإمام علي (ع)، فقال في المصدر المذكور نفسه:
(ما كان أهون عند علي بن أبي طالب عليه السلام من الدنيا وما فيها. فالمال، والحكم، والسلطة، والفرش، واللباس، والقصور، والأكل، والشرب.. كلها عند علي عليه السلام لا شيء، إلا بمقدار الحاجة الضرورية).
شخصية القائد الإسلامي لابد أن تكون نوعية بصيرورتها، من حيث البناء بمختلف توجهاته وجوانبه، فمن حيث العمق المعنوي لابد أن يكون مؤثرا في الناس، مانحا لهم الزخم المعنوي المطلوب، ولابد أن يقترن هذا الفعل الكبير بالبعد الروحي للقائد، فهو بشخصيته التي تمنح الآخرين معنويات عالية لابد أن يتحلى بالجانب الروحي القوي المؤمن الزاهد والقادر على إدارة شؤون الأمة بما يحفظ حقوقها.
وهناك ميزة مهمة ترتقي إلى مصاف الصفات العظيمة، ونعني بها صفة أو ميزة (نكران الذات)، فشخصية القائد (حاكم أو مسؤول أو مدير.....)، لابد أن تفضّل مصالح ومنافع وحقوق الآخرين أولا، وكل ما يقوم به يجب أن يدور في مدار التفاني لخدمة الآخرين وليس العكس، هكذا هي الشخصية النموذجية للقائد الذي يبتغي النجاح ومن ثم الخلود حاضرا ومستقبلا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(العمق المعنوي، والبعد الروحي، ونكران الذات، والتفاني في الله، كلها يجب أن تكون مجتمعة في شخصية القائد الإسلامي).
الشخصية القيادية النموذجية موجودة في الحلقات المشرقة من تاريخ الإسلام السياسي، وما على قادة اليوم في الدول الإسلامية إلا الرجوع إليها، والبحث الدقيق فيها، واستلهام خطواتها خطوة خطوة، لقد حرص الإمام علي عليه السلام، طيلة سنوات حكمه على أن يبقى زاهدا بالسلطة، رافضا لامتيازاتها، مبتعدا عن المظاهر البراقة والمغريات بمختلف أنواعها، فبقيت شخصيته القيادية النموذج الفريد لكل القادة المسلمين وقادة العالم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(أربع سنوات أو أكثر قضاها أمير المؤمنين عليه السلام بين الكوفة والبصرة، وهو الرئيس الأعلى للبلاد الإسلامية الواسعة الأطراف. خلال هذه المدة الطويلة لم يشتر من مال المسلمين ثياباً لنفسه، ولم يأخذ من أموال البصرة والكوفة شيئاً لذلك. بل ظل على ثياب المدينة كل هذه المدّة الطويلة، إلا إذا اشترى من عطائه الخاصّ كأضعف مستضعف في طول البلاد الإسلامية وعرضها). ويضيف سماحته (دام ظله):
(في الوقت الذي عمت الخيرات بلاد المسلمين وبفضل الإسلام، فكان المسلمون وغير المسلمين يرفلون في نعيم من الطيبات. وكانت الكوفة ـ عاصمة أمير المؤمنين عليه السلام ـ لا تجد بها إلا المنعَّم من الناس. في مثل هذا الظرف تجد سيد الكوفة، وسيد البلاد الإسلامية، وزعيم الإسلام: أمير المؤمنين عليه السلام لا يأكل حتى ما يأكله أدنى الناس).
قادة الدول الإسلامية اليوم، هم أحوج من جميع قادة العالم، إلى أن يبنوا شخصياتهم ما يجعلهم النماذج التي تقدي بها شعوبهم، فهؤلاء القادة بإمكانهم أن يكونوا معلمين عظماء للأجيال الحالية والقادمة، شرط أن يتعلموا ويبنوا أنفسهم وشخصياتهم بالصورة الصحيحة، ولا تزال فرصة التصحيح قائمة، لاسيما أن عجلة الزمن تدور بسرعة، فعليهم استثمار الفرص قبل فوات الأوان.