بقلم: السيد عبد الرسول الموسوي الكاظمي
عصيٌّ على الحاذق اللبيب أن يغور في أعماق ما لعبته البيوتات العلمية الشيعية في بلاد الشام من ترسيخ العلم ونشر الثقافة طيلة خمسة عشر قرناً. ومنها البيوتات العلمية الشيعية في بلاد الشام على رقعة تمتد من طرابلس الشام غرباً ومدينة حلب شرقاً.
وعصيٌّ على أحد أن يجس النبض العلمي الذي تركته أنامل علمائها على الورق, وقوافي شعرائها على الأفواه, وسيوف أبطالها على الثغور.
فأراني أقلّب تاريخها العلمي والجهادي وأتصفّح أوراق عمرها, أرى في سطوره الصمود والصبر والجهاد والمثابرة والشهادة من أجل إثبات الحق وإعلاءه, ومظلومية العترة وإظهارها.
تركوا بصماتهم عل كل حجر ومدر وفي كل مدينة وقرية.
فأحجار مدينة حلب تتحدّث عن تاريخ العترة النبوية عليهم السلام, كما هي في الرقة وحمص وحماه مروراً بالعاصمة دمشق وضواحيها, التي تنطق من خلالها مآذن الزينبية المقدسة, وأزقّة الخراب, والقلعة الدمشقية الممهورة بدماء شهداء الحركة العلمية فيها, حيث دفن في هوائها الشهيد الأول محمد بن مكّي العاملي الدمشقي ومن سار في ركابه ووضع بصماته عل نهجه ومدرسته.
والحديث عن البيوتات العلمية في طول البلاد الشامية وعرضها حديث ذو شجون, فمنذ مقتل الإمام علي أمير المؤمنين وابنه السبط الحسن عليهما السلام في القرن الأول الهجري, بدأت الأسر الشيعية بالهجرة من الكوفة إلى بلاد الشام, حيث استقرت في أرجائها الفسيحة, وعملت من الداخل إلى نشر ثقافة وفكر العترة الطاهرة عليهم السلام, ثم استحكمت وحَكمَتْ فيها إمارات ودول كبني حمدان في حلب وبني عمار في طرابلس, التي لجأ إليها ونبغ فيها علماء وأدباء وشعراء أضفوا على تاريخها اشعاعات من نور كتبت على جباه الحور.
ولعلني في هذه العجالة استطيع تدوين بعض اسماء تلك البيوتات العلمية أمثال: بنو شعبة, وبنو العديم, وبنو الخشاب, وبنو حمدان, وبنو زهرة الاسحاقيين, وبنو جرادة, وبنو عمار, وحلفاء بني حمدان من بني ورقاء الشيبانيين.
وفي كل هذه البيوتات العدّة والعدد والرئاسة والنقابة والجهاد وحفظ ثغور الإسلام والدفاع عن المسلمين، غير مغالٍ بهم, فتاريخهم يحكي عن آثارهم ومآثرهم العملية والجهادية, ومن يراجع صحائف كتب الرجال يرى أسماءً لامعة تغني القارئ الكريم في ذلك.
ففي أواسط المائة الثانية من الهجرة ظهر بيت شعبة الحلبيين أمثال عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي وإخوته محمد وعمران ابني علي بن أبي شعبة وعبد الأعلى وأبو علي وعمّه عمران ابن أبي شعبة وابن أخيه أحمد بن عمران, والحسن بن علي بن شعبة صاحب كتاب تحف العقول.
وسادات بنو زهرة الحسينيّين الحلبيّين, منهم الشريف أبو المكارم حمزة بن علي صاحب كتاب علية النزوع إلى علمي الأصول والفروع, والسيد محمد بن عبد الله الحسيني الحلبي, والسيد محمد بن ابراهيم الحسيني الحلبي, والسيد محمد بن ابراهيم الحسيني الحلبي, ومنهم تاج الدين بن محمد بن زهرة الحلبي صاحب كتاب غاية الاختصار, ومنهم نقيب حلب الأول الشريف محي الدين نجم الإسلام العالم الفاضل الفقيه الحلبي المولد والنشأة والوفاة, وهم ذراري الشريف الحسيني إسحاق المؤتمن بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
ومن بيوتاتهم آل أبي جرادة, طائفة كبيرة مشهورة بحلب وهم شيعة فيهم العلماء والفضلاء والشعراء والكتاب والقضاة, ذكرتهم جُلّ تواريخ السنة والشيعة, منهم: علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن ابي جرادة, ومنهم القاضي أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الحلبي, ومنهم القاضي كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي.
ومن البيوتات التي حكمت حلب بنو حمدان, ومن أجلّ رجال هذا البيت, ناصر الدولة الحسين, وأخوه سيف الدولة علي, وابن عمهم أبي فراس, قال عنهم الثعالبي في يتيمته:( كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء, أوجههم للصباحة, وألسنتهم للفصاحة, وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة).
وفي ظل دولتهم نبغ العديد من العلماء والشعراء والأدباء, أمثال: بن شهر آشوب المازندراني وكشاجم والفارابي ونظرائهم.
ومن البيوتات: بنو عمّار الذين حكموا طرابلس, منهم القاضي ابن عمار, ونبغ بينهم القاضي عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي, كان قاضي الدولة لثلاثين عاماً, وكانت لديهم مكتبة عظيمة تحتوي على ثلاثة آلاف ألف من الكتب, وكان لديهم مصانع لتصنيع الورق وتصديره.
ومن هذه البيوتات: بنو العديم, وبنو الخشاب في حلب...
إن أفول هذه الدولة واضمحلال البيوتات ناتج عن الإرهاب السلطوي الذي مارسه بعض الحكّام للنيل من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام حيث عملت فتاوى وعّاظ السلاطين على قتلهم وتشريدهم, كما فعل ذلك صلاح الدين الأيوبي ونور الدين الزنكي ومن حذا حذوهم من الحكّام المتطرّفين!
ومن البيوتات التي أرست دعائم مدرسة أهل البيت عليهم السلام في ربوع الشام هم بيت المجدّد الشيرازي في عصرنا الحاضر, حيث نبغ في هذا البيت العلمي العريق آية الله السيد حسن الحسيني الشيرازي قدّس سرّه الذي وضع الحجر الأساس للحوزة العلمية المقدّسة في مدينة السيدة زينب عليها السلام بدعم من مرجعية أخيه الإمام المرجع السيد محمد الحسيني الشيرازي قدّس سرّه واستمر الدعم من بعده الإمام المحقّق المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, حيث ضمّت هذه الحوزة العلمية المباركة الكثير من العلماء الفقهاء والأصوليين والأدباء والشعراء والمؤسسات الفكرية والمدارس المتعدّدة والمستوصفات والمشافي.
وراجت في هذا العصر إلى جوار المرقد الزينبي المطهّر الحركة العلمية والثقافية والمؤتمرات والمهرجانات والمنتديات, وأقيمت اشعائر الحسينية في سائر أيام السنة وفي عاشوراء والأربعين وامتدت لتغطّي مساحات واسعة من دمشق.
وها نحن اليوم نشهد هجمة شرسة من قبل الحركات الظلامية التكفيرية لإطفاء هذا النور الإلهي, والله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون.
إنّ القيادة الحكيمة للمرجعية الرشيدة ستبقى حاملة للواء الحسيني والزينبي حتى قيام دولة الحقّ والعدل لولي نعمتنا وإمام زماننا الحجّة بن الحسن المهديّ أرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء وعجّل الله تعالى فرجه الشريف.