سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام یدعو إلی الرحمة في أشدّ الظروف وأقساها
لو شئنا أن نبیّن مکانة (الرحمة) في الإسلام، لقُـلنا إنّ الرحمة هي الأصل والأساس في الإسلام، فقد إفتتح الله تعالی قرآنه المجید بکلمة الرحمة حینما قال (بسم الله الرحمن الرحيم)، وتكرّرت هذه العبارة مئة وأربع عشر مرّة في السور القرآنیة المبارکة. فضلاً عن وجودها بین ثنایا القرآن الکریم بشکل کبیر.
فالله هو الرّحمن، وهو الرّحيم، وقد أمر عباده بالعمل بمفهوم الرحمة في جمیع مجالات الحیاة، بل في أقسى الظروف وأشدّها، ومنها الحروب والنزاعات.
والرسول الأكرم صلی الله عليه وآله، وفي عشرات الحروب التي فُرضت علیه وخاضها بسبب نقض الأعداء لعهودهم ـ كان ورغم ذلك يأمر أتباعه من المسلمين بعدم البدء بالحرب والقتال مع المشرکین والکفّار، مهما کانت الظروف.
وهکذا عَمِل أمیر المؤمنین علیه السلام بهذه السُنّة والطریقة حیث لم یبدء أحداً من أعدائه بقتال في جمیع الحروب التي فُرضت عليه، والتي كانت أيضاً نتیجتها نقض العهود. فالعدو هو من أقدم علی إشعال نیران الحروب والفتن، کحرب الجمل ونهروان وصفین، وهو الذي شهر سلاحه في وجه إمام زمانه.
بینما الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام ورغم الخروج علیه والفتن التي قامت ضدّه، ما بدأ القوم بقتال ولم یأذن لأصحابه بالحرب أوّلاً، حتی یکون واضحاً للتأریخ أن من إبتدأ الحرب هو العدو ولیس الإمام وأصحابه.
لعلّ المثال یکون واضحاً أکثر في واقعة کربلاء، حیث إنّ سيد الشهداء (صلوات الله عليه) الذي خرج لطلب الإصلاح، حاصره الأعداء ومنعوه من العودة إلی مدینة جدّه وحشّدوا ضده المقاتلین وإصطفّوا لقتاله ـ لکنه أیضاً ورغم ذلك الموقف الصعب منع أصحابه من البدء بالحرب، فقال: (إنّي اكره إن ابدأهم بالقتال)(1) .
هذه (الرحمة) التي کانت عند أهل البیت علیهم السلام لا نظير لها في التأريخ ولیست موجودة الیوم في قاموس الدول الإستبدادیة ولا في قاموس الدول التي تدّعي الحرية والدیمقراطیة.
ولو راجعنا الأنظمة القدیمة والحدیثة لما وجدنا لهذه الرحمة نظیراً کما صنعه رسول الله وأهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم أجمعین في کلّ مجالات حیاتهم حتى في أشد الظروف وأحلکِها، ومنها الحرب.
وعلی هذا المنهاج الأخلاقي سار علمائنا الأبرار علی مرّ التأریخ، فقد تعاملوا بمفهوم الرّحمة في جمیع الحروب التي فُرضت عليهم، وإتّبعوا أهل البیت الأطهار علیهم السلام في طریقة التعامل مع تلك الحروب، إذ لم نر منهم موقفاً یُخرِجهم عن الرحمة في أقسى الظروف التي مرّت بهم.
فالإمام الثائر الشيخ محمد تقي الشيرازي (رضوان الله عليه) مثلاً، الذي واجه الاحتلال البريطاني في ثورة العشرین لمنعه من إستعمار العراق وإستعباده والسیطرة علی ثرواته ـ لم یصدر أمراً بمحاربة الإنجلیز إلاّ بعد مجیئهم ودخولهم لإحتلال العراق، فمن يقرأ تأريخ ثورة العشرين يرى أن الإمام الثائر لم يأذن للمسلمين بالبدء بالحرب رغم أن المستعمرين دخلوا العراق عنوةً.
وقد قام الشيخ محمد تقي الشيرازي (رضوان الله عليه) بمحاولات عدیدة وجادة لمنع وقوع الحرب بین البلدین، لکن الإستعمار البریطاني أبی إلاّ أن یخوض الحرب، حينها أفتى الإمام الثائر الشيخ محمد تقي الشيرازي (رضوان الله عليه) بالدفاع عن الوطن ومقدساته ومدنه وأهله، وأذِن للعراقيين بالدفاع عن الإسلام وبالدفاع عن الإعراض والمؤمنين والمؤمنات، ثم قيد إذنه وفتواه بالجهاد، مادامت الأمور السلميّة لاتجدي نفعاً في ردّ المعتدين.
کما وقیّد فتواه بحسن التعامل مع الأسری وأن یکون التعامل معهم برحمة وشفقة وإنسانیة، لأن الرحمة سِمة أساسية في الإسلام، وهي مطلوبة في كل المجالات حتى في أقسى الظروف القتالیة.
لا مكان للرحمة من دون السیر علی نهج أهل البيت (صلوات الله عليهم)
من يتصفح أوراق تأريخ الحروب والمعارك التي جرت خارج دائرة الإسلام، وعلی غیر منهج أهل البيت (صلوات الله عليهم) وأتباعهم، لا يجد للرحمة مكاناً بین هذه الحروب.
فالقرآن والإسلام والرسول الأکرم والعترة الطاهرة (صلوات الله عليهم أجمعین) هم من مارسوا الرحمة في أفضل معانيها وأوسع مجالاتها.
نعم إن الإسلام هو دین الرحمة ويدعو معتنقیه إلی التعامل برفق مع الآخرين حتی مع أسری الأعداء! ومن یقرأ القرآن ویراجع الروايات ویستقرء سیرة المعصومين، یری أن هذه الرحمة بإمکانها أن تصنع عالماً مثالیاً یعمّ فیه الخير والرفاه والراحة النفسية، ليأخذ كل إنسان نصيبه من الحیاة الکریمة.
فإذا تبادلت الرحمة بين الناس، بين الزوج والزوجة وبين الوالِد وأبناءه، بين الحاكم والمحكوم، بین العائلة الواحدة والعشیرة الواحدة والمدينة والقرية الواحدة، لکنّا قد حصلنا علی مدینة فاضلة یعیش فیها الجمیع بأمن وسلام.
فالمدينة الفاضلة لاتكون إلا بالتراحم، والإسلام کدین بُني علی التراحم في کلّ مجالاته.
دعوة لقراءة جدیدة للتأريخ
نحن ندعوا الجمیع من غير المسلمين، والذین يدّعون الحریة ويتشدّقون بالرفاهية ویطلقون شعارات الفضیلة والأخلاق، ندعوهم جمیعاً إلی مراجعة دقیقة وصحیحة لفهم الإسلام، فإن من يُنقذ العالم وأهله الذین تجاوز عددهم السبع ملیارات من ويلات الحرب التي تلحق بهم يومیاً ـ هو معرفة الإسلام بشکل صحیح. ولا یتحقق ذلك الهدف إلاّ عبر الاستفادة من شریعة الإسلام وتطبيق معاني الرحمة فیها، وأسال الله إن يوفقنا لنشر هذه المعاني الأخلاقیة الفضیلة لينعم الناس بالخير والرفاه والأمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - معالي السبطين، في وقائع صبيحة عاشوراء.