سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
أسس بناء المجتمع الصالح:
قال الله تعالى في القرآن الحكيم في صفات المتقين: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)1.
الخصال الثلاث أعلاه: (كظم الغيظ والعفو عن الناس والاحسان الى الناس) اذا تفشّت بالمجتمع كانت بداية للمجتمع الصالح، وتبادل هذه الخصال الثلاث بين افراد المجتمع يجعل من المجتمع مجتمعاً صالحاً ومتلاحماً ومتكاتفاً الى الرقي والفضيلة وبناء المدينة الفاضلة، ويكون من هذا المنطلق:
نفرض ان ّعائلة مؤلّفة من ستة او سبع اشخاص اقل من ذلك او اكثر، وعزموا على تطبيق تلك الخصال في انفسهم بمعنى ان يكون الاب والامّ والبنت والابن والبنت والاخ والأخت يعزم كل واحد منهم على كظم غيضه تجاه الآخرين وعلى عفوه عن تعدّي الآخرين وعلى الاحسان للآخر عندما صنع شيئاً غير مناسب وغير صحيح لأن التربية العملية اكثر تأثيراً من التربية القولية. فالشخص الذي يعمل بالمعروف هذا اقوى تأثيراً من دعوة الناس الى المعروف أي من الدعوة باللسان، والشخص الذي يكظم غيضه يكون نموذجاً للآخرين في كظم الغيظ. فالنفوس اللائقة والمناسبة تتعلّم منه كظم الغيظ والذي يعفو عن الآخرين فالآخرين يعفون عنه غالباً وعادة، والآخرين يتبادلون فيما بينهم العفو بعضهم مع بعض وهكذا بالنسبة الى الاحسان. وقد قرن الله تعالى تلك الصفات الثلاث في مكان واحد في صفات المتقين لأن اجتماع تلك الخصال يكون ابلغ واقوى تأثيراً في تربية الجيل الصالح وصناعة الامة الصالحة والأمة ذات الفضيلة.
بالعزم تتحقق الفضيلة:
نجد في التاريخ ان الأسر التي تتعامل بعض الشيء بهذه الخصال (كظم الغيظ والعفو عن الآخرين والاحسان لهم) او بواحدة منها او بثنتين منها او بثلاثتها نجد تلك الاُسر أسر فضيلة اكثر من الاسر الاُخر. فالبشر فيه نقاط قوة وفيه نقاط ضعف وكل انسان عنده شهوات تدفعه الى الرذيلة وعنده قناعات تدفعه الى الفضيلة ولكن المجموعة التي تعزم على تلك الخصال الثلاث حيث يبتدء بعزم كل فرد فرد بمعنى ان في عائلة واحدة يعزم الاب على العمل بتلك الخصال الثلاث شيئاً فشيئاً فتكون تلك العائلة احسن من غيرها في تعاطي الفضيلة. وعشيرة احدهم يعزم على العمل بتلك الخصال الثلاث شيئاً فشيئاً فعلى مرّ الزمان تكون تلك العشيرة نموذجية بالنسبة الى العشائر الاخر. وليبدء كل فرد بنفسه سواء كان أب للعائلة او أمّاً او بنتاً، وكبيراً كان او صغيراً، ليبدء كل فرد في العائلة او الاسر من نفسه وهذا اسهام لصنع الجيل الصاعد شيئاً فشيئاً سراية من عائلة، أي سراية الفضيلة الى عائلة اخرى والى عوائل اخرى والى باقي الناس، ولكن هذا بحاجة الى عزم وارادة من المجتمع ككل ومن الافراد كأفراد.
ليست باباً للتمادي في الخطايا:
هناك نقطة سلبية في الامر المذكور، وتذكر غالباً وهي ان الشخص الذي اتى بعمل غير صحيح اذا تُرك وكُظِم عنه الغيظ وعُفي عنه بل واحسن اليه هذا يشجّعه على ارتكاب ما لا يليق اكثر واكثر، وهذأ صحيح ان هناك بعض النفوس المريضة اذا عُفيّ عنها تتجرّء على الجريمة اكثر ولكن غالب الناس ليسوا هكذا، فغالب الناس اذا احسن اليه يحسّ بالدين عند هذا الاحسان فبدوره هو يقوم بالاحسان ايضاً، واذا عُفيّ عنه يحسّ بالدين مقابل العفو فيقوم هو بدوره بالعفو عند قدرته، وهكذا بالنسبة لكظم الغيظ.
أئمة الفضائل:
في الاحاديث الشريفة عيّنات كثيرة من المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) في المجال المذكور ومن اتباع المعصومين (عليهم السلام) من العلماء ومن البررة من الناس، فقد ورد في الحديث الشريف ان الامام الحسن المجتبى (صلوات الله عليه) كان له عبداً وقد جنى جناية كان يستحق العقوبة عليها فأمر الامام (عليه السلام) بعقوبته لجناية ذلك العبد، والعبد حيث كان تربّى بعض الزمان في بيت الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) وكان يسمع قراءة القرآن ويقرأ القرآن فلما امر الامام المجتبى (عليه السلام) بعقوبته قرأ للامام المجتبى القطعة التالية من القرآن الكريم: (والعافين عن الناس) فقال له الامام الحسن المجتبى (صلوات الله عليه) عفوت عنك. والامام عليه السلام هو امام الفضائل وامام التربية وامام الاخلاق وامام العفو فعفى عنه ثم اكمل ذلك العبد قراءة الآية الكريمة (والله يحبّ المحسنين) فالامام (عليه السلام) للاحسان اليه قال له: انت حرّ لوجه الله ثم اعتقه في سبيل الله، ثم قال له ولك ماكنت اعطيك. فيوم كان عبداً للامام (عليه السلام) كان يعطيه رزقه ومصرفه فقال لقد صرت حرّاً وعتقياً وليس لك حقّ النفقة عليّ مع ذلك انا اجري ماكنت انفقه عليك يوم كنت عبداً)2.
ثمار العفو والإحسان عن الاخرين :
عندما يصنع الامام (عليه السلام) ذلك الصنيع مع العبد فمن الطبيعي ان يكون العبد متميّزاً عن بقية العبيد لأن النفس الانسانية غالباً تحسّ بدين عندما يُحسن اليها فيكون بدوره في موارد مشابهه ويقوم هو بالعفو ويقوم بالإحسان إلآ النفوس الشريرة وهي نادرة.
الإمام الكاظم (عليه السلام):
وهكذا ورد في تاريخ الامام الكاظم (عليه الصلاة والسلام) ان جارية له كان بيدها إبريق تصبّ الماء على يدي الامام الكاظم (عليه الصلاة والسلام) فسقط الابريق على رأس الامام وشجّ وجهه وجرى الدم من وجهه الشريف، وكات الجارية قد تربّت ايضاً بعض الزمان في بيت الامام الكاظم (عليه السلام) وتسمع قراءة القرآن وهي تقرأ القرآن وتعلّمت القرآن، فبمجرد ما سقط الابريق من يدها وشجّ وجه الإمام عليه السلام وجرى الدم، قرأت المرأة الجارية الجملة التالية من القرآن الكريم: (والكاظمين الغيظ) والامام (عليه السلام) امام في كل الفضائل، فقال (عليه الصلاة والسلام) كظمت غيظي. فقرأت (والعافين عن الناس) فقال الامام (عليه الصلاة والسلام): عفوت عنكِ. فقرأت (والله يحبّ المحسنين) فأعتقها الامام (عليه الصلاة والسلام)3.
ثمار كظم الغيظ والعفو والاحسان:
لو نبحث في التاريخ نجد ان تلك الجارية بعد تلك القضية قد تغيّرت الى الفضيلة اكثر واكثر والى الخلق الرفيع اكثر واكثر، لأنّ الانسان مجبول على تعلّم ما يدور حوله ان خيراً فخير وان شرّاً فشر وقليل يرون الخير ولا يتعلّمونه. بلى من الممكن ان يتعلّم المرء الخير لا مئة بالمئة فقد يتعلّم بنسبة خمسين بالمئة او ستين بالمئة اكثر من ذلك او اقل، ولكن بالنتيجة التربية العملية التي امر بها القرآن الكريم في تلك الآية للمتّقين، هي علامات المتّقين.
العلماء الاتقياء والخصال الثلاث وثمارها:
يذكر في التاريخ عن العالم الجليل والمرجع الديني الكبير السيد ابو الحسن الاصفهاني (رضوان الله عليه) ان شخص قتل ابن السيد الاصفهاني بمحضر السيد الاصفهاني وأخذت الشرطة القاتل الى السجن ولكن السيد الاصفهاني اصرّ واصرّ على الذين سجنوا القاتل بأنه قد عفا عنه فعليهم ان يطلقوا سراحه، لأنه جان ولأنه قاتل وهناك بعض الناس عادة يتفلسفون بأن العفو عن الجاني يكون تشيعاً له عن الجناية لأنه عندما قتل فإنه يتشجّع على قتل انسان ثاني وثالث. ولكن بالعكس غالباً الناس ليسوا هكذا فالناس بالعفو يتقدّمون خطوات الى الفضيلة والى الاخلاق.
ثمار العفو عن الآخرين:
بأصرار السيد ابي الحسن الاصفهاني (رضوان الله عليه) وعفوه عن قاتل ابنه وخروج القاتل من السجن وذهابه في شأنه لم ينقل عن هذا القاتل جناية اخرى في تاريخه. إذن فليساهم الجميع في خلق المجتمع الصالح، وينبغي لكل فرد ان يساهم في خلق المجتمع الصالح بدءاً من العائلة الصغيرة ومروراً بالعشيرة والارحام والى المجتمع الكبير في قرية او مدينة او دولة او في العالم كله ان يساهم في خلق مجتمع صالح في ان يبدأ بنفسه بتلك الخصال الثلاث بأن يكون كاظماً لغيضه عندما يغيظ من تصرّف شخص آخر وان يكون عافياً عن الآخرين وان يكون محسناً للآخرين حتى الذي عمد الى الجريمة وصنعها .
المصادر:
1/سورة آل عمران الآية: 134.
2/بحار الأنوار: 43 / 352 الرواية: روي أنّ غلاماً له (عليه السلام) ويعني ( للإمام الحسن بن علي) جنى جنايةً توجب العقاب، فأمر به أن يُضرب، فقال: يا مولاي (والعافين عن الناس)، قال: عفوت عنك، قال: يا مولاي (والله يحب المحسنين)، قال: أنت حرٌ لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطيك ).
3/هذه الرواية وردت في عدد من الأئمة المعصومين ومنها ما جاء في مجمع البيان : ج 2 ص 505 فصل في ذيل آية 134 من سورة آل عمران: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. وروي أن جارية لعلي بن الحسين (عليهما السلام) جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الابريق من يدها فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إن الله تعالى يقول: والكاظمين الغيظ. فقال لها: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس، قال: عفى الله عنك، قالت: والله يحبّ المحسنين، قال: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله.