سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
عيسى عليه السلام والعاصين
ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أن قال: کان النبي عيسى بن مريم عليه السلام یسیر ذات مرّة سائحاً مع أصحابه، فوصل إلى قرية مات أهلها، وکانت أجسادهم منتشرة في کل مکان، في الطرقات والأزقّة والمنازل وغیرها. فقال عيسى لأصحابه: هؤلاء ماتوا بالعذاب الذي نزل عليهم فجأة وفي آن واحد. فقال الأصحاب: یا عیسی! وكيف علمت بذلك؟ قال: لأنّهم لو ماتوا بالتدريج لدفن بعضهم بعضاً، فما دام الموتی منتشرین في کلّ مکان، فمعنی ذلك أنّهم ماتوا بالعذاب موتةً واحدة، ولم یستطع أحد منهم أن يدفن الآخر. فطلب الاصحاب من النبي عيسى أن يسأل الموتى ما شأنهم وما سبب عذابهم؟ فسأل عيسى بن مريم تلك الأجساد المنتشرة عن سبب موتها؟ وما هو العذاب الذي حلّ بها؟ وشتتها في کلّ مکان، في البیوت والطرقات والمزارع؟ فأجابه أحد الموتى بإذن الله: أصبحنا في سلامة، وأمسينا في الهاوية. فقال عيسى بن مريم: وما الهاوية؟
فقال المیّت: بحار من نار، فيها جبال من نار في جهنم (والعياذ بالله). فقال عيسى: وما هو سبب هذا العذاب؟ ونشیر هنا الی أنّ الأمم السابقة قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله كانت إذا عصت الله تعالی أو ظلمت، نزل علیها العذاب الشامل وأصابها عذاب الفجأة. ومن بركات رسول الله أنّ هذا العذاب الشامل قد انقطع في زماننا. فأجاب ذلك المیّت: لأنّه كان فينا خصلتان: الأولی: حبّ الدنيا وحبّ العیش فیها، فكنّا إذا أقبلت علینا نفرح، وإذا أدبرت عنّا نحزن. والثانیة: طاعتنا لأمراءنا الطواغیت (والطاغوت مبالغه بالطغيان ویراد منه الحاكم الطاغية الذي یظلم الرعیة ويطغى في ظلمه حتی ینتشر ظلمه في البلاد والعباد).
فقال له عيسى: وكيف كانت طاعتكم للطاغوت، وإلی أي حدّ؟ فأجاب: کنّا نطیعه في کلّ ما أمرنا به. ونحن نعلم أنّ (الطاغوت لايأمر بالخير بل يأمر بالشر، ویحبّ الظلم ويأمر به). لقد كنّا نعمل بكل ما يأمرنا به، فأصبحنا في سلامة، وأمسينا في الهاوية.
في مضمون الحديث الوارد عن الامام الصادق صلوات الله علیه، أنّ النبي عيسى بن مريم على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام سأل ذلك الشخص: كيف تكلّمت معي بینما سکت الباقون؟ فأجاب المیّت: لأنّهم جمیعاً ملجمون بألجمة من نار (والعياذ بالله). فقال عيسى: ولماذا أنت غیر مُلجم؟، قال: لأنّي الوحيد الذي لم یکن یفعل أفعالهم، فلما نزل العذاب شملني.
إنّ الله تعإلى عادل و(بالعدل قامت السماوات والأرض)1، كما تقول الأحاديث الشريفة. فالعدل عندنا من أصول الدين التي تعتقد بها المدرسة الإمامیة لأهل البيت عليهم السلام، فالله تعإلى ومن عدله أنّه لا يظلم أحداً من عباده حتی بمقدار مثقال ذرّة، ولذلك استثني ذلك الرجل وجری علیه العذاب بمقدار ما اقترف من ذنب.
أمّا سبب شمولیة العذاب لاولئك المذنبین فهو أنّهم أحبّوا الدنيا وحبّ الدنيا يجرّ إلى المعاصي، وبسبب ذلك الحبّ أطاعوا الطاغوت وعملوا بما أمرهم به من ظلم وفساد فحقّ أن ینزل علیهم البلاء الشامل، فإذا لم يكونوا کذلك فكيف يعّمهم العذاب؟
تلك رواية لعلها متواترة ووردت في قصص مختلفة وفي أمم متعدّدة، لتبیّن أنّ الشخص إذا لم يكن عاصياً لا يعمّه العذاب. وإذا كان عاصياً وعصيانه لم يكن بمقدار معصية اولئك، فهو لم يأمرهم بمعروف أو ينهاههم عن منكر، فهذا عصيان عبد أمره الله ونهاه، لکنّه لا يطيع الله تعإلى، فيترك الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر الحرام. فقال عيسى له: فأنت في النار معهم؟
فقال له : نعم ولكنني لست ملجماً في فمي. فسأله عيسى ـ كيف حالك في النار؟ قال الرجل لعيسى علیه السلام : أنا الآن مُعلّق بشعره، وأخاف في كل لحظة أن أسقط في نار جهنم.
ذلك هو مضمون الحديث الشريف لکي نأخذ منه العِبرة، والقرآن یؤکّد ویقول: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)2، ونحن في هذا الزمان، وفي هذا المكان علینا أن نلاحظ لنری کیف نتعامل مع ما أمر الله به؟
لکلّ واحد منّا ظروفه الخاصة، وهو یتأثّر بالقضایا المحيطة به، فعلیه أن ینظر کیف یتعامل مع تلك القضایا بما أمر الله به؟
صحیح أنّ ذلك النوع من العذاب الشامل والفجأة انقطع عن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، لکنّ العذاب الفردي الدنیوي لایزال قائماً بالنسبة لكل شخص، فهو عذاب دنیوي مختلف عن أنواع عذاب الآخرة على نحو العلّة والمعلول.
حبّ الدنيا رأس كل خطيئة
كل إنسان منّا رجلاً كان أو إمرأة، وشاباً أو فتاة، وشيخاً أوشیخة، وعالماً أو جاهلاً، وغنياً أو فقيراً، ومثقفاً أو أميّاً، یجب علیه أن یعرف في حیاته ما مدى حبّه للدنيا وما مدى طاعته للطاغوت .
بلى، إنّ الإنسان في طبعه یمیل بعض الشيء الی حبّ الدنیا، لکن الإشکال یکون في مستوی هذا الحبّ ومقدار التعلّق بالدنیا، فهل حبّ الدنیا یمنعه من صلاته الواجبة ؟ وهل یترك بسبب حبّ الدنیا صلة الأرحام الواجبة، ولا یهتمّ بسببها بعقائده الخاطئة والفاسدة ویترکها من دون تصحیح، ثم يتبع بسبب هذا الحبّ أوامر الطاغوت: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)3 .فالطاغوت له وجوه مختلفة، فقد يكون حاكماً ظالماً مستبّداً برأیه، وقد يكون مفكّراً وصاحب نظریة في الإسلام، وقد یکون عالماً وحافظاً للقرآن، وقد یکون من الأصحاب المنافقين الذین سمعوا کلام رسول الله وعاشوا الی جنبه طیلة عشرين سنة أو أكثر. فالمهم هناك طیف متنوّع من الطواغیت، ولابدّ من معرفة مقدار الطاعة إلی هؤلاء، فالطاعة للطواغیت وتمکینهم من الناس هو عصیان لله تعالی .فالإنسان الذي یُطیع الطواغیت يُبتلى بالعذاب في الدنيا والآخرة. وقد ندّد القرآن الكريم وفي أكثر من مکان بطاعة الطاغوت وبحبّ الدنيا، ففي الحديث الشريف: (حبّ الدنيا رأس كل خطيئة)4 والإنسان إذا أحبّ الدنيا وتعلّق بها تعلّقاً شدیداً سوف یجرّه ذلك الی اتّخاذ الدنیا دار قرار، فيقتل ويظلم لأجل الدنيا، کالزوجان اللذان يظلم أحدهما الآخر للدنيا، والأرحام الذین يظلم بعضهم بعضاً للدنيا.
إنّ مظاهر حبّ الدنیا مختلفة فبعضها يرتبط باللسان وبعضها بالفمّ وبعضها بالاُذن وبعضها بالتفکیر بالملذّات .
لذا علينا أن نأخذ العبرة من هذه القصص ومن غيرها وأن نعزم علی عدم طاعة الطاغوت سواء كان حاكماً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو عائلياً أو أي نوع آخر .فالمهم أن لانتّبع الطواغیت فيما يقولون ویأمرون به من ظلم وفساد ومعصیة.
أمّا بالنسبة إلى حبّ الدنيا، فكل إنسان مادام في الدنيا فهو يحبّ الشهوات، لأنّ الله تعإلى خلقها في الإنسان لا ليستفيد منها حلالاً وحراماً بل ليختبر الإنسان بها، فيستفيد من شهواته بمقدار الحلال وبمقدار ما أذن الله تعإلى له. فحبّه للدنيا يكون بمقدار ماهو حلال من ملذّات هذه الدنيا ولا ضیر في ذلك، لکن الخطر یکمن في عدم تجنّب الحرام مما یزید علی ذلك .
المصدر:
1. عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4 ص 103.
2. سورة يوسف الآية 111.
3. سورة العلق الآية 6 و7.
4. وسائل الشيعةج 16 ص9.