سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
من أفضل الطلب
ورد في مضمون الحديث الشریف عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه ذات مرّة قال لأحد أصحابه اطلب منّي شيئاً! فقال ذلك الرجل: يارسول الله دعني أفكّر بالأمر. فعاد الرجل في اليوم الثاني وقال لرسول الله: أطلب منك أن تخلّصني من نار جهنم، وأن أكون معك في الجنّة. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: مَن علّمك هذا الطلب؟ فقال الرجل: لم يعلّمني أحد به، ولكنّي فكّرت في نفسي ماذا أطلب منك، فإن طلبتُ المال، فالمال ينتهي بعد صرفه، وإن طلبت عائلة وأبناء لعشت معهم فترة ثم أفارقهم بسبب الموت، لذا فکّرت أن أطلب منك شيئاً لا ينتهي ولا یزول. فسکت النبي صلى الله عليه وآله برهة ثم تأمّل طویلاً، حتی قال(مأورد في مضمون الحديث وبطرق متعدّدة): أفعلُ ذلك، ولكن أعنّي بكثرة السجود. ولو تأمّلنا في مضمون الحدیث لوجدنا عبر کثیرة تکمن فیه ویمکن استخلاص بعضها :
العبرة الأولى: الحثّ على ثقافة الطلب
في الحديث الشريف أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي بادر إلى دعوة ذلك الصحابي وحثّه علی الطلب منه، ونعلم أن فعل رسول الله أسوة لنا، حیث صرّح بذلك القرآن الکریم: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)1، فيستفاد من الحديث أن لا خصوصية لذلك الشخص في هذا المورد، بل إنّ اخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله الحسنة هي التي دفعت ذلك الرجل إلى المطالبة، وعلیه ینبغي للمدير والرئیس وصاحب المنزلة والمقام أن یحثّ من هم دونه مرتبة والذین تحت أمرته علی ثقافة الطلب، وأن یدعوهم إلى ذلك الطلب، فلعلّ الأشخاص الذین یعملون أو یدرسون تحت أمرته یمنعهم حیاءهم من تقدیم الطلب، أو یکونوا غیر منتبهین له، أو لیست لدیهم الشجاعة الکافیة في التقدّم به، أو أسباب أخری متعدّدة. فالمطلوب شرعاً أن یتلاحم الأفراد وتکون بینهم ألفة ومحبّة، ومن مقدّمات التلاحم والألفة بشتى أنواعها وصورها بين المؤمنين هو دعوة بعضهم بعضاً إلى المطالبة بحاجاتهم، باعتبار أنّ ذلك سنّة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله، وكل عمل من أعمال المعصوم حجّة وسنّة علینا نحن کمسلمین .فالإنسان علیه أن يکون متآلفاً ودوداً مع كل شخص يعيش معه ومن هم أدنی منه، من مدرّس وصاحب عمل وزوج ورئيس،و یجب أن یُعمل بهذا المنهج التربوي في کافّة المجالات، ومنها المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهذه المجالات تُعدّ جزءاً صغیراً من جزئيات کبیرة للتلاحم والتحابب بین الناس .
ثم إنّ التعامل بتلك الطریقة تمنح الأشخاص الأدنی القدرة علی الطلب، وخاصة الذین تعتریهم حالة الخجل والذین هم غیر ملتفتین ولايحبّون إحراج مديرهم أو رئيسهم بطلباتهم فیمتنعون عن ذلك، لکن ذلك المدیر أو الرئیس أو صاحب الوجاهة أو المتمکّن مإلىاً یُقدم علی تشجیع الآخرین للطلب منه فیتحقّق الأمر بزوال حاجز الخوف أو الخجل.
العبرة الثانية: تأمّل قبل أن تسأل وتجیب
العبرة الاخرى من الحديث الشريف، أنّ الرجل الصحابي لم يتسرّع في جوابه، بل قال (دعني أفكّر) وهذا هو المرجو منه والمأمور به في القرآن الحكيم ومتواتر الاحاديث الشريفة، فالفكر مرآة صافية، وعلی الانسان أن یتأمّل في جوابه وأن لا یسرع فیه وخاصّة بالامور المهمة. فالإنسان الذي يفكّر قبل أن يتكلّم لا یندم، والنادمون هم الذين يتكلّمون بسرعة ومن دون تفکیر، ثم سرعان ما يندمون علی قولهم. فلابدّ إذن من التفکیر والاستغراق فیه بمقدار ما تتطلّب الحاجة، فبعض الأمور تستغرق تفكيراً طويلاً وبعضها تستغرق ثواني أو دقائق معدودة.
بلى، هناك أمور تحتاج إلى أجوبة سریعة لأنّها بدیهیة، کما لو سألك أحدهم: ماذا تأكل اليوم؟ فالجواب الذي لا یوجد فیه مضرّة في الظروف الطبیعیة غیر مهم کثیراً، فإما أن نأکل فلان الطعام الحلال أو ذاك، وإمّا أن نلبس فلان النوع من الملابس أو غيره وأما أن نختار فلان اللون أو غيره، کما أنّه إذا کان هناك تناسب مع الجهات الشرعية والعرفية، فلا فرق أن نسافر في الوقت الحالي أو في غير وقت.
إذن فالامور المهمّة التي تحتاج الى تأمّل، یکون الجواب فیها مختلفاً عن الأمور التي تقلّ أهمیة، فالانسان يعزم أن لايجيب فوراً ولايسأل فوراً إلاّ بعد تأمّل وتفکیر في عاقبة ذلك الأمر، بمقدار ما یحتاجه من وقت. وبالنسبة للشخص الصحابي أنّه آمن برسول الله صلى الله عليه وآله، واعتقد بأنّه نبي من عند الله، فلا ینبغي أن يطلب منه طلباً بسيطاً أو قليلاً، بل یجب أن یکون الطلب یلیق بمن یطلب منه وبمستوی شخصیة رسول الله صلى الله عليه وآله ومکانته ومقامه، وهذا الطلب طبعاً یحتاج إلى تفکیر وتأمّل کبیر .
العبرة الثالثة : جودة الطلب وعبقرية الطالب
هناك عبرة أخرى یمکن أن نستفید منها أكثر من باقي العِبر وهي ما وردت في الحديث الشريف، فقد طلب الرجل شيئاً لا ينتهي ولا یزول وهي الجنّة: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)2 والنجاة من النار (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)3. فطلب أن یکون خالداً في النعيم المقیم والفوز بالجنّة، وأن ینجو من النار الحریق ومن عذابها الإلىم، وطلب عملاً أن یکون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وبجواره ومرافقته، فرسول الله قال له: من أين توصّلت إلى هذا الطلب؟ ومن أخبرك به؟ فقال ما أخبرني أحد، ولکن فكّرت بذلك بنفسي .
العبرة الرابعة: تربية المسؤول لمن هم دونه
إنّ مرافقة رسول الله سواء كان لفترة طويلة أو قصيرة تجعل من الإنسان رجلاً حكيماً، وهذا الرجل الذي طلب من رسول الله لم يكن عادیاً إلى درجة یتسرّع في طلبه، ولذلك تراه تدبّر في قول رسول الله صلی الله علیه وآله ، وأدرك أنّ عمل رسول الله وفعله وتقريره فیه حكمة ولیس کلاماً عادیاً. فالشخص الذي يعيش فترة مع رسول الله صلى الله عليه وآله يتعلّم منه الدروس، فإذا كانت له قابلية الفهم والإدراك، فعلیه أن يستفيد من هذه القابلية في حیاته. ولذا قال الرجل ببصیرته وفهمه وإدراکه: لم أتعلّم من أحد، فكّرت بذلك بنفسي. فمن أين حصل علی ذلك الفهم الکبیر؟
كل واحد منّا، سواء کان مؤمن أو مؤمنة، في أي مجال کان وأية مرتبة، إذا کان زوجاً وتحت إمرته زوجته وأبناؤه أو کان رئيساً علی مرؤوسیه أو کان مدرّساً وله تلاميذ أو کان حاكماً علی رعیته، هؤلاء جمیعاً علیهم أن لایقتصر تعاملهم علی الأمور الدنیویة، بل یجب توجیه من هم دونهم إلى الآخرة ویعلّموا الآخرین من اقوالهم وافعالهم أيضاً (فالدالّ على الخير كفاعله)4 و(من سنّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة)5. فهذا العمل یکون من مصاديق تلك الامور، فالأب له مسؤولية تربية أولاده والرئيس له مسؤولية تربية المرؤسين والحاكم له مسؤولية تربية الرعية، فعندما يتعلّم أولئك منه خيراً فلا یجني إلاّ الخير، وإن عمِلَ شراً فلا ینال إلاّ الشر، وهناك طبعاً استثناء فیما حقّق في محلّه ودلّت عليه الادلّة الشرعية والادلّة العقلية والعقلائية، أنّه اذا کان الفاعل مختاراً وعمل المعصية والحرام وما لا يليق، فالرئيس ليس مسؤولاً عن فعله وعمله کما یذكر ذلك الفقهاء في بحث التسبيب، ولا يكون تسبيباً. فأصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله، من تعلّم منه الخير، یکون الرسول شريك معه في ذلك الخير، ويعطى له من الأجر ما يعطى لكل واحد من اصحابه الذین تعلّموا منه الخير .
اما الأصحاب الذين نافقوا علی رسول الله صلی الله علیه وآله وعملوا الشرّ، فرسول الله ليس مسؤولاً عن شرّهم، لأن الوسيط اذا كان فاعلاً مختاراً لايكون تسبيباً. وهذا مادلّت عليه الادلّة العقلية والعقلائية والشرعية الخاصّة، فكل واحد منّا وبالنسبة إلى من هم تحت أمرته ورئاسته يكون مسؤولاً عنهم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)6، وهذا يكون مصداقاً من مصاديق المسؤولية للعبرة أيضاً .
العبرة الخامسة: الدنيا وما فيها الى زوال
العبرة الاخرى أنّ الصحابي تعلّم من رسول الله صلى الله عليه وآله، أنّ الدنيا الى زوال، لکن الذيلا یزول في الدنیا هو ما يُعمل فیها للآخرة، فالمال في الدنيا يزول، إلاّ إذا صُرف في أمور أخروية، فالأهل والأولاد یزولون إمّا في حياة الشخص أو بعد حياته، لکن الجنّة لا تنتهي، والنجاة من عذاب جهنم لا ینتهي، فحريّ بنا أن نختار البقاء علی الزوال، وأن نختار البقاء في الجنّة علی البقاء في النار .
يوجد في بعض الموارد وجوب شرعي طبقاً للموازين الشرعية، واذا لا يوجد وجوب شرعي فيوجد استحباب شرعي أو ندب عقلي، فعندما يرید الانسان ان يطلب من شخص شيئاً ويكون ذلك الشخص قادراً على ان يعطيه، فعلیه أن لا يرضی بالقليل منه .
العبرة السادسة: طلب ما لا يزول من الله
نحن عندما ندعو الله تعالى ماذا نطلب منه؟ نطلب منه كل شيء، لا بأس، ولكن ينبغي أن نركّز على الامور الاخرویة التي لاتنتهي، وهي الحياة الآخرة والتوفيق في الدنيا مما يسبب الحياة الابدية للانسان. ومنها النيّة الصالحة والاخلاص الذي لا ينتهي باعتباره یتسبّب إلى نیل الحياة الابدية، فعندما يتوسّل الانسان بالمعصومين أو بمن هم یلون المعصومين من أولياء الله تعالى ماذا يطلب منهم؟ فیجب أن لا يقتصر الطلب على الامور الصغيرة، بل علیه أن یطلب الامور الكبيرة.
ثم قول رسول الله صلى الله عليه وآله له كما ورد في نصوص وتعابیر مختلفه (أعني بالسجود أو بطول السجود أو بكثرة السجود) فهذا ما يستفاد منه، ولعله أحد الابواب المهمة للنجاة من النار والفوز بالجنة یکمن في السجود. فالسجود غاية التواضع وفریضة إلهیة، فمن يسجد على الارض يضع أحد أشرف أجزاء بدنه وهي الجبهة على شيء يُوطىء تحت الارجل وهو التراب، تواضعاً لله تعإلى وخضوعاً له. وإنّ تکرار السجود وتطويله والإمعان بالذكر فيه يقرّب الانسان الى الله تعالى، وإذا اقترب الإنسان الى الله تعالى سیصبح بعيداً عن النار وقريباً من الجنّة.
المصادر:
1.سورة الاحزاب الآية 21.
2.سورة البقرة الآية 82.
3.السورة نفسها الآية 39.
4. الجعفريات ص ١٧١.
5. تفصيل وسائل الشيعة ص 24 /5 ـ باب أقسام الجهاد وكفر منكره وجملة من أحكامه الرواية 19937.
6. بحار الأنوار: ج72 ص38 ب35 ضمن ح36.