سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
السياسة الإدارية للحاكم العادل
ورد في کتب التأريخ، أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقد درعه، فوجده عند شخص من أهل الكتاب، فقال له الإمام: إنّ هذه درعي، فقال الرجل السارق: لا بل هي درعي. فتقاضاه أمير المؤمنين صلوات الله عليه عند شُريح، وكان شریح آنذاك قاضياً في حکومة أمير المؤمنين عليه السلام یقضي بین الناس في الكوفة. فقال شُريح: يا أمير المؤمنين هل من بيّنة؟ فلم يقم أمير المؤمنين عليه السلام البيّنة على ذلك، مع أنّه كانت لدیه بيّنة. فقال شريح: بمقتضى دلیل (البيّنة على المُدّعي واليمين على من أنكر)، هذه الدِّرع بيد هذا الرجل ويده حجّة شرعية، حتى يثبت خلافها. فحكم شريح وهو قاضي أمير المؤمنين عليه السلام بالدّرع لذلك الکتابي، وكان حينئذ أمير المؤمنين حاکماً أعلى للدولة الاسلامية!
عندما حكم شريح لصالح ذلك الکتابي، أخذ الأخير ذلك الدّرع ومشی خطوات، ثم وقف، فرجع لیقول: هذه سیرة الانبياء. ثم تشهّد الشهادتين وأسلم علی ید أمیر المؤمنین علیه السلام، وأرجع للإمام الدّرع، لکن الإمام علیه السلام وهب له ذلك الدرع بعد إسلامه.
تلك القصة وقعت في زمن كانت البلدان الأخری غیر الاسلامية تعيش حالة من الفوضی والدكتاتوريات الضیّقة، فأدنی موظّف في أنظمة تلك البلدان لم يكن مستعدّاً لأن یقوم بما قام به أمیر المؤمنین علیه السلام فکیف والإمام کان في أعلى سلطة في الدولة الاسلامية. ثم إنّ أمير المؤمنين إمام معصوم والإمام المعصوم قد طهّره الله تعالى ونزّهه ولايحتاج الى بيّنة كما ورد في القصة التي تناقلتها کتب التاريخ.
ما يجري على الرعيّة يجري على الحاكم
إنّ من المسلّمات والثوابت في القضاء، أن تجري الأحكام بین الناس بنزاهة من دون تفضیل شخص علی آخر، ففي القصة التي ذکرناها یکون صاحب اليدّ حجّة شرعية لا یحتاج الی بیّنة، فصاحب اليد هو مالك الشيء علی الظاهر، إنّما الذي یحتاج الی بیّنة هو من یدّعي الملکیّة من صاحب الید، وتلك القصة على صغرها تنمّ عن عدل عظيم في الاسلام (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) 1 والعدل یجري ویطبّق وإن کان على أرفع شخصية في الحكومة الاسلامية، وحتی لو کان الشخص المطلوب کتابي أو کافر أو غیر مسلم ومن الأقليّات المذهبیة التي تعیش تحت رعاية ووصایة الحكومة الاسلامية. فقانون البيّنة يجري علی المدّعي وإن کان في أرفع المستويات والمناصب.
تأمّلوا في القصّة! أكبر حاكم في الدولة الإسلامیة يتقاضى مع خصمه الى قاضٍ نصّبه بنفسه، والقاضي يحكم لخصم من الأقليات الدینیة. فکم یشعر الناس بالأمان والإطمئنان في مثل هذه الدولة عندما يکون الحكم عادلاً ونزیهاً، ويتساوی الحاكم مع المحکوم؟! وکم تکون نسبة الجريمة والخوف والإضطراب هابطة الى أقلّ مستویاتها عندما تتحقّق العدالة بین الناس ویساوی القضاء بین المسؤول والمرؤوس.
هذه العدالة هي شريعة القرآن الكريم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فیکون التطبیق بهذا المستوى الرفيع، وهذه القصة في تاريخ أمير المؤمنين صلوات الله عليه وردت في رواياتنا وروايات غيرنا وفي تواريخ المسلمين وتواريخ غير المسلمين، فهل نجد في التاريخ نظیراً لرسول الله ولأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما في تطبیق تلك الآیة؟
للأسف إنّ الاسلام بات مظلوماً في التطبیق، ولا يزال الكثير من غیر المسلمین وحتی المسلمین یجهلون الاسلام الأصیل ولايعرفون أنّ الاسلام يشرّع بهذه الدّقة کما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ). وكذلك من المؤسف أن نرى تأريخ البلاد الاسلامية بعد رسول الله باستثناء فترة حكومة امير المؤمنين صلوات الله عليه، لا تشهد مثل تلك النماذج الرائعة في التطبیق، علماً بأنّ تأریخ أمیر المؤمنین صلوات الله عليه فیه مئات النماذج من نظیر القصّة المذكورة التي یقف فیها الحاكم الأعلى للدولة الإسلامیة أمام القضاء بجوار شخص كتابي سرق درعه، ولكن الدرع بيده وامير المؤمنين عليه السلام الذي يقول إنّ الدّرع له، لا يقيم البيّنة!
الإسلام لا یزال مظلوماً
إذا تتبّعنا السیرة العظیمة لأمير المؤمنين علیه السلام في تاريخ الاسلام سوف نعرف بوضوح، أنّ الاسلام كم أصبح مظلوماً عند المسلمين وعند غير المسلمين. فمثل هذا الاسلام فیه أناس كانوا أبعد ما يكونون عن العدالة وعن العدل الذي أمر به القرآن الكريم، لکنّهم حکموا البلاد الإسلامیة عنوةً ومارسوا الإضطهاد والجور في الحکم واستغلّوا القضاء لمصلحتهم وجیّروه لخدمتهم، أمثال حكومات بني أمية وبني العباس وبني عثمان، فکانت ممارساتهم سبباً في ابتعاد الناس عن الإسلام ونفرتهم منه. وبهذا نعرف بوضوح مدى قیمة الحديث الشريف الذي يقول: (لو كان الأمر يستتب لأمير المؤمنين بعد رسول الله صلوات الله علیهما وآلهما خلال فترة طويلة، فترة ثلاثين سنة من عمر أمير المؤمنين بعد النبي، لأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم) كناية عن أنّ البشر لو عملوا بذلك لعاشوا برفاه وحرية واطمئنان.
انشروا تاريخ الاسلام
علی المسلمين جميعاً ولاسیما الشباب أن يقرأوا تاريخ الاسلام ویطالعوا سیرة اهل البيت عليهم الصلاة والسلام الذين هم الممثّلون الشرعیون والحقيقيون للإسلام. فبعد هذه الدراسة والمطالعة سوف یتسنّی لهم نشر تاريخ الإسلام بما أوتوا من طاقات وإمکانات (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)2، فإذا انتشر إسلام أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ووصل الى العالم المنفتح لاعتنقوا الاسلام برحابة صدر. وشأنهم شأن ذلك الكتابي الذي أسلم خلال دقائق لما شاهده من صدق في حدیث أمیر المؤمنين صلوات الله عليه ومساواته بین الحاکم والمحکوم، مع إنّ الإمام کان محقّاً بذلك الدّرع. فصحاب الوجدان عندما يجد الشيء صحيحاً سوف يتوجّه إليه ویؤمن به، وهذا ما شاهدناه في موقف الکتابي الذي أسلم وأعلن اسلامه في ذلك الوقت القصیر الذي قضاه مع أمير المؤمنين صلوات الله عليه. فالذي يمشي بالعدل ویحکّم وجدانه، تكون حياته عن بيّنة، وأمّا الذي يسحق وجدانه فإنّه يهلك عن بيّنة (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)3.
المصادر:
1.سورة النحل الآية 90.
2.سورة الكهف الآية 29.
3.سورة الأنفال الآية 42.