LOGIN
المقالات
alshirazi.org
تكامل العلم والأخلاق في بناء توازن الشخصية
رمز 126
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 21 مارس 2013
شبكة النبأ: قد لا يبدو الترابط مباشراً وقوياً بين العلم والأخلاق، ولكن من نتائج التحليل المنطقي أن الإنسان المتعلّم، ينحو إلى التهذيب في التفكير والسلوك، أكثر من الإنسان الجاهل، وهكذا يقترب الإنسان المتعلّم كثيراً من الأخلاق، خلافاً للجاهل الذي يكون في الغالب غير مهذّب بسبب عدم اطّلاعه وقلّة وعيه، وهذا ينعكس على عموم المجتمع بطبيعة الحال، لهذا فإن اكتساب الأخلاق والسعي إلى درجة الاكتمال في هذا الجانب أصعب بكثير من اكتساب وفهم واتقان أحد العلوم، والسبب يكمن في أن الأخلاق تدخل في بناء النفس، فيما تُسهم العلوم في بناء عقل الإنسان، والفارق بين بناء النفس وبناء العقل كبير من حيث الجهد المبذول في هذا المجال، ومن بداهة القول أن المجتمع أكثر حاجة للإنسان الخلوق المتزن الإنساني في أفكاره وسلوكه، من الإنسان الذي يتقن العلوم لكنه لا يتقن السلوك الإنساني، وربما يصل الإنسان المتعلّم إلى أعلى المناصب، وربما يقود مجموعة أو دائرة وقد يصل الأمر إلى قيادته لدولة ما، بسبب قدراته العلمية التي اكتسبها بسعيه وجهده ومواهبه.

مزايا القائد المتعلّم
هنا يتبادر إلى الذهن التساؤل التالي: ما فائدة كل ذلك إذا لم تكن الأخلاق هي المعيار الذي يستند عليه صاحب السلطة في إدارة سلطته وصلاحياته، ولذلك نلاحظ ان من يتخصّص في علم ما، فإنه سيحقّق ما يسعى إليه من تفوق وبسرعة تفوّق كثيراً ما يسعى إليه الإنسان في مجال بناء النفس.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في كتابه الثمين الموسوم بـ(العلم النافع) بهذا الخصوص: (إنّ مَن يتخصّص في علم واحد ويستفرغ كلَّ وسعه وجهده يبلغ أعلى الدرجات فيه ويتفوَّق غالباً على مَن كان ذلك العلم أحد اهتماماته، والأخلاق تحتاج إلى التفرّغ والجدّ والمثابرة من أجل بلوغ المراتب العالية فيها)، لذلك فإن جميع العلوم تتطلّب سعياً وجهداً حثيثاً لتحصيلها، ولكن الأخلاق تتطلب جهداً مضاعف، بل يحتاج الإنسان لكي يبني نفسه إلى إرادة حديدية تحيِّد رغائب النفس الكثيرة، وتعطّل الغرائز الدافعة للإنسان نحو الوقوع في الزلل، لهذا غالباً ما يحتاج المجتمع إلى الرمزية الأخلاقية، وإلى النموذج الأخلاقي المؤثّر، لأن الإنسان الخلوق سواء كان عالماً أو غيره، يترك تأثيره الأخلاقي بسرعة ووضوح في المحيط الاجتماعي الذي يتحرّك فيه.

لهذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المذكور، على أن: (المستوى الذي يبلغه الأخلاقي ـ وطالب العلم الدينيّ خاصة ـ يؤثِّر في أداء دوره في المجتمع. فقوله وفعله وسيرته وتاريخه يشجِّع الناس نحو الفضائل الأخلاقيّة والاجتناب عن رذائلها إذا كان هو من أهل الفضيلة، ولكن إن كان عكس ذلك فسيدفع الآخرين إلى العكس أيضاً). في هذه الحالة لا يصح أن تكون هناك مجافاة بين العلم والأخلاق، بمعنى أن الإنسان العالم والعارف ببواطن الأمور وسواها، ينبغي أن يحصّن نفسه مسبقاً بقاعدة أخلاقية تحميه من الإخفاق، والانحراف والضعف تحت ضغط الحاجات المادية الجسدية وسواها، لذا لابد أن يدرّب الإنسان نفسه على انتهاج سبل الفضيلة، وكبح نوازع الرذيلة التي تدفع نحوها النفس طمعاً أو طلباً لتحقيق مآرب لا مشروعة، من هنا ينبغي على من يسعى إلى اكتساب العلم، أن يجعل من الفضيلة شعاراً في القول والفعل يطبقه في حياته العملية وسواها، لهذا يوجّه سماحة المرجع الشيرازي قائلاً في هذا الصدد: (إذاً على طالب العلم أن يولي الالتزام بالفضائل والأخلاق عناية خاصّة لأنّه كلّما ارتفع مستواه فيهما ارتفع مستوى التزام الناس بهما بالتبع. وهذا أحد الفروق التي تميّز الأخلاق عن سائر العلوم والفنون كالفقه والأصول والبلاغة والفلسفة والخطابة وغيرها).

وكما ذكرنا ان هناك فوارق عديدة بين الأخلاق والعلوم، ولكن يمكن أن يشكّل الطرفان رديفين بعضهما لبعض، بدلاً من حالات التناقض التي قد تحدث أحياناً، بين العلم والأخلاق، وهو ما يعزوه البعض إلى حدوث التضارب سياسياً بين النهج العلماني والديني، ولكن في ظل الإسلام لا تضاد بين العلم والأخلاق، ولا بين السياسة وبين الدين، أما الفارق فهو يكمن في الصعوبة التي تتجلّى باكتساب الأخلاق، قياساً باكتساب العلم، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (الفرق الآخر بين الأخلاق والعلوم الأخرى يكمن في صعوبته قياساً بها، فالرقيّ في الأخلاق أصعب منه في العلوم الأخرى). وفي المسار نفسه يضيف سماحته قائلاً:

(إنّ الأخلاق أصعب من الفقه لأنّ الأخلاق تعني تهذيب النفس وبناءها، وقد قال بعض أهل الخبرة: من الصعب أن يصبح المرء مجتهداً ولكن من الأصعب أن يصير إنساناً).

الارتقاء بالذات
لذا يتطلّب الامر أن يرتقي الإنسان بنفسه، وأن ينحو صوب تهذيب الذات وتشذيبها من المساوئ أيّاً كان نوعها أو مصدرها، وطالما كان الصراع بين الإنسان ونفسه، فإنه صراع ينطوي على صعوبات جمّة، إذ يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلاً بهذا الصدد: (إنّ الارتقاء في الأخلاق والفضائل أصعب من الاجتهاد في الفقه؛ وإنّ ثمرته ونتيجته أبعد منالاً وأعسر حصولاً من الفقه).

وهكذا فإن الأخلاق لا تعني أن يتصنّع الإنسان سلوكه مع الآخرين، بل لابد أن تكون الأخلاق متأصلة في ذاته ونابعة منها، أما التصنّع فهو مكشوف ولا يصمد طويلاً، حيث ينكشف الوجه الحقيقي للإنسان، بعيداً عن غطاء التصنّع، ولهذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي على: أن (المرء لا يلمس نتيجة سعيه إلاّ عندما يصبح ذا قلب سليم وتصبح الأخلاق والفضائل ملكات لديه، عندها يشعر بلذّة الأخلاق والوصول إلى مراتبها العالية، وعندها يعرف قيمة ترويض النفس ومخالفة الشهوات).

وبهذا يمكن للأخلاق أن تصبح ملكة تتأصل في ذات الإنسان، ولكن الأمر يتطلّب سعياً حثيثاً ومتواصلاً، لاكتساب الفضائل كسلوك أصيل يطبع نفسية الإنسان وتوجّهاته في الأفعال والأقوال معاً، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي:

(لا تصبح الأخلاق ملَكة عند الشخص إلاّ بعد أن يحارب نفسه ويخالفها، ويستمرّ في مخالفتها حتى تنمو عنده ملَكة حبّ الخير في كلّ أبعاده. فإذا حصل على الملَكة شعر باللذّة وبدأ يلمس نتيجة أتعابه في مجال الأخلاق والفضائل. وهذا لا يحصل بصورة سريعة بل هو بحاجة إلى وقت يستغرق عمر الفرد؛ لذلك أصبح الارتقاء في مدارج الأخلاق صعباً)، وفي كل الأحوال يحتاج المجتمع إلى الرمزية الأخلاقية، إذ يكون يكون بمقدورها تأصيل السلوك الإنساني السليم وتطويره، وتعميمه على أفراد والجماعات، لاسيما النخب المؤثّرة كالعلماء والسياسيين والمثقفين وغيرهم، لكي تتكون للمجتمع قاعدة أخلاقية متينة، تصونه من التردي والتراجع والنكوص.