شبكة النبأ: يرى المفكّرون المعنيون أن الأمن الاجتماعي ذو طابع كلّي، يؤثر في جميع المجالات الأخرى للأمن والاكتفاء الذاتي، بمعنى أدقّ، إذا تحقّق الأمن الاجتماعي، أصبح بالإمكان تحقيق كافة أشكال الأمن في جميع المجالات الأخرى لحياة المجتمع، لهذا يعدّ الأمن الاجتماعي بمثابة الدعامة الحقيقية لقوّة المجتمع ومتانة نسيجه وتناغمه وانسجامه في مجالات التعايش والتوافق والتكافل وما شابه، فضلاً عن كون الأمن الاجتماعي، يمثّل أحد أهم الدوافع التي تجعل المجتمع أكثر تماسكاً واستقراراً، وقدرة على التطوّر المتواصل.
من هنا أعطى الإسلام أهمية قصوى لهذا النوع من أنواع الأمن، كونه يتعلّق بصورة مباشرة بحياة الناس، وأن أيّ خلل أو إهمال يتعرّض له الأمن الاجتماعي من لدنّ الحكّام والجهات المعنية، يؤدّي إلى كوارث حقيقية تصيب المجتمع، وتجعل حياته مشوّهة ومشلولة، بحيث يصبح مجتمعاً مشلولاً وخالياً من أدنى القدرات، والمواهب والطاقات التي يمكن أن تجعله مجتمعاً قويّاً متوازناً، بإمكانه مواكبة الحياة بصورة متوازنة.
سياسة الضمان الاجتماعي
كما تؤكّد الأسانيد التاريخية والدلائل الملموسة أن الدولة الإسلامية، استطاعت أن تحقّق أعظم نظام للأمن الاجتماعي في صدر الرسالة النبوية الشريفة، وفي عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، وقد تكامل الأمن الاجتماعي على نحو غير مسبوق، حتى في تجارب الدول التي كانت تدّعي التقدّم والمدنية في ذلك الحين.
وقد ذكر سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في كتابه القيّم، الموسوم بـ(السياسة من واقع الإسلام)، أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: (فمن ترك مالاً فلورثته ومن ترك ديناً فعليَّ).
بمعنى أن من يموت وعليه دَيْن، فالدولة أو الحكومة الإسلامية في حينها، هي التي تقوم بسداد هذا الدَين عن مواطنها، ومن يموت ويترك وراءه أموالاً، فإن الدولة لا تقرب منها، والحكومة لا تأخذ منها شيئاً، إنما تترك تلك الأموال لورثة الميت، فأيّ نظام هذا .. يكفل للإنسان حياة كريمة، ومماتاً موقّراً.
لذلك يصف سماحة المرجع الشيرازي ذلك بقوله: إنّ (الضمان الاجتماعي في الإسلام صبابة الإنسانية في قمّتها، ولذا فإنّ الإسلام حيث ينطلق من زاوية الإنسانية، يصبّ هذا الضمان بما يتوافق مع الإنسانية في أعمق أبعادها الفضيلة، وبتأكيد لم يره التاريخ قبل الإسلام، ولم تسجّل الحضارات بعد الإسلام حتى اليوم ضماناً اجتماعياً بعمق الضمان الاجتماعي في الإسلام). ويؤكّد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المذكور أن الإسلام يقول حول الأمن الاجتماعي: (إنّ كل من يموت وعليه ديون، فعلى إمام المسلمين أداء ديونه، وكل من يموت وله مال، فالمال كلّه لورثته، ليس لإمام المسلمين منه شيء.. فهل سمعت ضماناً اجتماعياً كهذا، حتى في أعمق الحضارات؟. بالتأكيد، لا..).
ولكي يضمن الإسلام تحقيق الأمن الاجتماعي بما يكفل الحياة الكريمة للإنسان، تم وضع التشريعات اللازمة لهذا الأمر، فقد وردت نصوص كثيرة للشريعة الإسلامية تعالج هذا الجانب، وتحثّ على إعطائه الأهمية القصوى، لأسباب تتعلّق بأهمية تحقيق التكافل والضمان الاجتماعي للجميع.
الشريعة والأمن الاجتماعي
لذا يذكر سماحة المرجع الشيرازي في كاتبه نفسه حول هذا الموضوع قائلاً: (في نصوص الشريعة الإسلامية زخم كبير ـ حول الأمن الاجتماعي ـ، وهو إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على مدى اهتمام الإسلام بالتأكيد على هذا الجانب الاجتماعي المهم، حيث تكرّر نقل ذلك عن نبيّ الإسلام صلي الله عليه وآله والأئمة من العترة الطاهرة عليهم السلام).
ويؤكّد لنا سماحته عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قوله: (ما كان رسول الله صلي الله عليه وآله ينزل من منبره، إلاّ قال: «من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو ضياعاً، فعليّ». عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من مات وترك ديناً، فعلينا دينه، وإلينا عياله، ومن مات وترك مالاً، فلورثته»). ويضيف سماحته: أن (هذا واحداً من بنود الضمان الاجتماعي في الإسلام، ويظهر منه عمق الإنسانية في الإسلام، وفي هذا النظام بالذات. بالعكس تماماً مما تعمله عدّة من أنظمة العالم اليوم، من جعل الضريبة على الإرث على من مات وترك أموالاً).
هكذا يتبيّن للجميع كيف ينظر الإسلام إلى الأمن الاجتماعي، وكيف يتعامل مع عموم الناس، من أجل حفظ كرامة الإنسان، وعدم احتياجه للآخرين، علماً اننا لو أجرينا مقارنة مع أكثر الدول تقدّماً واهتماماً بالتعامل الإنساني مع مواطنيها، فإننا لا يمكن أن نجد نظاماً حكومياً يتعامل وفق هذه النظرة الإنسانية التي كانت تعتمدها الدولة الإسلامية آنذاك، بسبب إيمانها من ان الأمن الاجتماعي هو السبيل إلى حياة كريمة تخلق التوازن المطلوب، بين جميع شرائه وطبقات المجتمع، لاسيما بين الطبقة الحاكمة، والطبقات الأخرى، ومن أهمها الطبقة الأدنى من حيث الدخل، والتي غالباً ما تتعرّض للفقر والعوز.
لذلك يوضّح سماحة المرجع الشيرازي هذه الجوانب الرائعة من تعامل الدولة الإسلامية مع هذا الجانب الاقتصادي الاجتماعي الحيوي، فيقول سماحته في الكتاب نفسه: (لو مات شخص وعليه ديون، فليس على النظام الحاكم من دينه شيء أبداً، أترى كم يساهم مثل هذه الأنظمة في تشتيت المجتمع وتحطيم الديون بين الأفراد والجماعات، إذ الدائن لا يملك ضماناً لو أعطى ديناً لفقير معدم، لأنّه لو مات فمن الذي سيتكفّل ديونه؟ فمن تراه يقرض المحتاجين والمعوزين؟).
وهكذا.. لو أردنا المقارنة بين الأمس واليوم، فيما يتعلّق بواقع المسلمين، بخصوص الأمن الاجتماعي والتكافل والتعاون بين الناس مع بعضهم، أو بين الطبقة الحاكمة والطبقات الأخرى، فإننا سنلاحظ الفرق الشاسع بين الاثنين، بين واقع الأمس وكيف تعامل الإسلام إبّان الدولة الإسلامية بقيادة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وبين واقع اليوم، الأمر الذي دفع سماحة المرجع الشيرازي إلى التساؤل في كتابه نفسه قائلاً: (هل هناك ضمان اجتماعي كما في الإسلام؟).