LOGIN
المقالات
alshirazi.org
ثقافة بناء الإنسان من واقع الإسلام
رمز 165
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 7 نوفمبر 2013
محمد علي جواد تقي

شبكة النبأ: مما ميّز الإسلام عن سائر الديانات والمناهج السماوية التي نزلت للإنسان، أنه حمل برنامجاً متكاملاً لبناء الإنسان بالطريقة التي يزهو بها في حياته، ويعيش الكرامة والحريّة والتقدّم في الحياة. وقد تجسّد هذا البرنامج في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فخلال عشر سنوات فقط من معايشته المجتمع العربي آنذاك، وهو خليط من الحضريين وسكان البادية، تمكّن من تغيير قدر كبير من السلوك والعادات والأفكار لدى الناس. فمن الغلظة والقسوة والعدوانية وغيرها من الخصال الذميمة، إلى الرحمة والتعاون والتكافل وسائر الصفات الحميدة. وهذه النقطة بالتحديد، هي التي أثارت استغراب المفكّرين الغربيين، فأقرّوا له، صلى الله عليه وآله، بالتفوّق على جميع شخصيات العالم على مرّ التاريخ. فكتبوا بكثير من الإعجاب والانبهار، عن كيفية تغيير تلك الشخصية البدوية القاسية، والصخرة الصمّاء، وتحويلها إلى شخصية تنبع منها الأخلاق والرحمة والتضحية من أجل القيم والمبادئ، وهذا أيضاً، يمكن عدّه أحد أهم عوامل تقدّم الحضارة الإسلامية، وبزوغ نورها في أرجاء المعمورة، وها هي عديد المؤلّفات الصادرة في الغرب تؤكّد فضل العلوم والثقافة الإسلامية، على التقدّم العلمي والتقني في الغرب.

في كتابه (السياسة من واقع الإسلام)، يبيّن سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، هذه الأسبقية والريادة، حيث يشير إلى بعض الدول في العالم التي تتباهى بالتعليم الإلزامي، في حين إنّ الأسبقية تعود إلى الإمام الصادق صلوات الله عليه.

يستند سماحته على الحديث الشريف: (ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقّهوا). ويقول: (عالم اليوم يفتخر بالتعليم الإجباري الذي فرض في بعض الدول على عامّة النّاس، مع أنّ المخطِّط الأوّل لذلك في إطاره الإيجابي الإنساني دون السلبي الممارس حالياً عند البعض، هو حفيد رسول الله صلي الله عليه وآله، الإمام جعفر الصادق صلوات الله عليه، صاحب هذه الكلمة النادرة. فهو يتمنّى لو استطاع جبر أصحابه على التفقّه والتعلّم ولو بسبب ضربهم بالسياط).

في هذا الكتاب يشير سماحته إلى اهتمام القرآن الكريم بالعلم والثقافة، حيث يبيّن أن حجم الاهتمام بالعلم والثقافة يصل إلى الربع مما يضمّه الكتاب المجيد، من أحكام ومفاهيم أخلاقية ودروس وعبر وموضوعات اجتماعية واقتصادية وغيرها. وعدّ سماحته أكثر من (1500) آية كريمة تتحدّث عن المواد التالية: العلم، والمعرفة، والتعقّل، والتذكّر، والتدبّر التي يجمعها ـ يقول سماحته ـ معنى الثقافة.

السؤال هنا: لمن هذه العلوم والمعارف التي يحثّ الإسلام على اكتسابها وتطويرها؟

عندما نطرح هذا السؤال على الإنسان الغربي، سيكون جوابه؛ الربح، والتوسّع الاقتصادي، والتأثير الفكري والثقافي، وحتى المكاسب السياسية.. أما الإنسان الغربي نفسه، فهو بعيد عن الفوائد الحقيقية لهذه العلوم والمعارف، وربما يجد نفسه إنساناً متكاملاً من الناحية المعنوية والأخلاقية، وأيّ تصرّف أو توظيف للعلوم فإنّه في الطريق الصحيح. بينما الإسلام يدعو إلى البناء الذاتي، وبعده البناء الاجتماعي، ومن ثم بناء الأمّة، وعندما نطالع بعض الصفحات التي حفظها لنا التاريخ عن مجتمعنا الإسلامي الأول، وكيف أنه لم يشهد الأوبئة الخطيرة، ولا الظواهر الاجتماعية الشاذّة مثل السرقة والاحتيال والبطالة والمجاعة وغيرها، بل العكس، كان الإنسان المسلم في ذلك العهد يشهد المعمارية الجميلة وطرق الري والزراعة والقانون، وغيرها، وبشكل عام، لم يكن الناس في حيرة من أمرهم في أيّ شأن من شؤون الحياة. بينما نلاحظ الأوضاع السائدة في عالم اليوم، حيث كل شيء مسكونٌ بالقلق والاضطراب والتأزّم. والسبب في ذلك ـ من جملة أسباب ـ أن العلم والمعرفة، لم تساعد الإنسان يوماً على تغيير واقعه وذاته من السيئ إلى الأحسن، نعم؛ ثمّة الخدمة الظاهرية التي نشهدها ونلمسها، وهي ليست بالمجّان، إنما هي ضمن عملية تجارية واضحة المعالم، حيث تخضع لمعادلة الربح والخسارة، فما يضمن الربح الأكثر، هو الأكثر حضوراً في الأسواق.

من هنا، نلاحظ أن معظم الذين يستبصرون بنور الإسلام وأهل البيت عليهم السلام، يتوجّهون فوراً على طلب العلوم الدينية، ويحاولون الالتحاق بإحدى الحوزات العلمية، لسبب بسيط واحد؛ أن التعاليم والأحكام الإسلامية لصيقة بواقع الإنسان الفرد والمجتمع، ومعرفة الأحكام والتعاليم، بمعنى معرفة المجتمع وحاجاته.

إلى هذه الحقيقة يشير سماحة المرجع الشيرازي في إحدى محاضراته وهو يتحدّث عن منزلة العلم والثقافة في نشر الدين في العالم، حيث تحدث عن تجربة مضيئة في هذا المجال، وهي قصة تعود إلى حوالي (200) عاماً، ومن إحدى مناطق شمال إيران التي تقطنها الأقلية المسيحية، وهناك نشأ شاب مسيحي يمتلك درجة عالية من الذكاء والنبوغ، بحيث أهّله ذلك أن يتخطّى مراحل الدراسة الدينية في الكنيسة، وفي وقت مبكر أصبح أحد أبرز القساوسة في منطقته، بعد أن أكمل دراسته في الفاتيكان، لكن هذا الشاب المسيحي والعالم الباهر في شؤون دينه، التقى بشباب من سنّه في مدينة أرومية شمال إيران، وبعد فترة وجيزة وإذا به يتخلّى عن المسيحية كاملة، ويتحوّل إلى الإسلام، ثم يتوجّه إلى دراسة العلوم الدينية، بل تحوّل إلى أحد أبرز علماء الدين الشيعة، وحمل لقب (فخر الإسلام).

يتحدّث سماحته في مسيرة هذا العالم في الأجواء الإسلامية، و(أنه كان سبباً في هداية الآلاف من المسيحيين إلى نور أهل البيت صلوات الله عليهم، في العديد من المدن الإيرانية. وألّف عشرين كتاباً في مجال تفنيد عقائد المسيحية وادّعاءاتها ومزاعمها، وكان أسلوبه فيها جيّداً وبليغاً ورائعاً، ومنها: كتاب أنيس الأعلام في نصرة الإسلام والردّ على النصارى في مجلّدين، وكتاب بيان الحقّ والصدق المطلق في عشرة مجلّدات، حيث اختصّت المجلّدات الأربعة الأولى منه في إثبات أحقيّة القرآن الكريم ونبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله).

هنا؛ يتساءل سماحته عن هوية أولئك الشباب الذي تمكّنوا من تغيير ذلك العالم الشاب والطامح والتألّق في الديانة المسيحية..؟ وبالقطع فإنّ سماحته يريد أن يثير الجواب فينا، بأن ـ بلا شكّ ـ كانوا أكثر علميةً وثقافة ومعرفةً من ذلك العالم المسيحي، وإلاّ لما كان بإمكانهم تغييره، وهو بذلك الذكاء والنبوغ. وإذن؛ فإنّ العلم والثقافة بمعناها الصحيح، هي تلك التي تضع الإنسان على الطريق الصحيح خدمة له ولمستقبله ومصيره في الحياة، وليس في الأمر إكراه أو تغرير أو تضليل، كما نلاحظ في نهج المسيحية اليوم في أنحاء العالم، حيث تفعل كل شيء من أجل الانتشار وتغيير عقائد الناس، مستخدمة في ذلك آخر ما توصلت إليه التقنية الحديثة من وسائل الإعلام والاتصال.

من هنا يدعو سماحته الجميع إلى الانتباه لمسألة تطوير العلوم وتكريس الثقافة الأصيلة لدى الشريحة المتعلّمة، بل وتوسيعها في المجتمع لإعادة أمجاد الحضارة الإسلامية من جديد. أما الطريق إلى ذلك، فيبيّن سماحته أنه بحاجة إلى تضحية وعزم وإرادة على تخطّي الصعاب، وذلك على صعيدين: الأول: الصبر والتحمّل من الآخرين، والأمر الآخر، العفو والحلم، بمعنى العطاء والتفاني من أجل الآخرين. وهذه بالتحديد من الصفات التي كان يتحلّى بها أبرز علماءنا وأكثرها نجاحاً وتألّقاً في تاريخنا الشيعي. ومن هؤلاء أولئك العلماء الشباب الذين تمكّنوا من تحقيق ذلك التغيير والبناء العظيم في إنسان كان مسيحياً ثم تحوّل مسلماً وعالماً معطاءً.