شبكة النبأ: قد لا نخطئ إذا قلنا أن الهدف الأهم للحاكم ينبغي أن يتركّز في قضية القضاء على الفقر، وقد يكون هذا الأمر المعيار الأول الذي يثبت نجاح الحاكم من فشله في إدارة السلطة، فعندما ينتهي الفقر ويعيش الجميع تحت سقف العدل والمساواة والإنصاف والقيم الإنسانية النبيلة، فهذا دليل قاطع على نجاح الحاكم في أداء مهامه حيال الشعب.
هنالك قواعد وأركان معروفة، تساعد وتسهم في قيام الدولة الناجحة، ومن أهم هذه الأركان ركيزة الاقتصاد السليم. ولكي ينتفي الفقر، كيف يتم ذلك؟
هناك عوامل تساعد على تحقيق هذا الهدف، منها وربما أهمها بناء الاقتصاد السليم، وإدارة الدولة وفق سياسة عادلة، وصنع المجتمع الذي يؤمن بالفضيلة ويعمل بها.
هذا بالضبط ما قال به سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في الكتاب القيّم (من عبق المرجعية)، وقد جاء ذلك على هيئة تساؤلات كما نلاحظ في هذا الكلام الواضح المكثّف والزاخر بالمعاني الدقيقة، حيث يسأل سماحته: (لماذا الفقر، والاقتصاد سليم، والسياسة عادلة، والمجتمع فضيل؟).
وكما هو معلوم للجميع أن الحكومة يتمّ تشكيلها من مجموعة قادة سياسيين يعلنون قدرتهم على إدارة شؤون الدولة والمجتمع على أفضل وجه، يقودهم قائد أعلى هو رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية بحسب ما ينصّ عليه الدستور ووفقاً لشرعية الوصول إلى السلطة، لكن في مجمل الأحوال يتحمّل أعضاء الحكومة ورئيسهم المسؤولية الدستورية والأخلاقية في بناء المجتمع بطريقة تليق بكرامة الإنسان وتلبّي حاجاته المتعدّدة، لذا لابدّ أن يتصدّى القائد لما يحتاجه الشعب وليس هناك أي سبيل سوى القضاء على الفقر.
ومن ثم السعي الحثيث لتقديم مصالح الناس على مصالح معاوني الحاكم وموظّفيه ونعني بهم الوزراء أو أعضاء الحكومة، هذا ما يحدث في الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على شرعية الانتخاب، فهي في الغالب تستطيع أن توفّر الأجواء الطبيعية لحركة المجتمع في ميادين الإنتاج الفكري والمادي، ويمكنها أن تخلق القاعدة المادية الداعمة للفكر السليم والابتكار والإبداع، وهذا في الحقيقة لا يمكن تحقيقه إذا لم يتم القضاء على الفقر.
وهنالك أجواء لابدّ أن يسعى الحاكم لصنعها، أجواء الأمان، والكفاية المادية أي القدرة الشرائية، وانتفاء الظلم، والقيود، وإشاعة الثقة بين الجميع. كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي إذ يقول: (يستقرّ الناس في جوّ لا ظلم فيه ولا جور، ولا عنف ولا إرهاب، ولا قيود ولا أغلال، ولا سجن ولا تعذيب، ولا مشاكل ولا فقر، ولذا كان العمران والرقي، والمحبّة والثقة، إبّان تطبيق الإسلام أمراً عادياً لم يجده العالم في هذا اليوم).
القضاء على أسباب الفقر
الفقر هو الداء الذي يقف وراء كل الأمراض، حتى العضوية منها، فالفقر وإن لم يكن جرثومة أو فايروس مع ذلك هو الذي يصيب الجسد بأنواع الأمراض، لأنه السبب بالجوع وسوء التغذية وعدم القدرة على شراء الدواء، فضلاً عن إثارة الأحقاد بين الناس والحسد وما شابه، لذا ثمّة شروط ينبغي أن توفّرها الحكومة للمجتمع لكي يصبح أكثر وعياً وأكثر استعداداً للتطوّر والإبداع، ومن أهم القضايا التي ينبغي تحقيقها في واقع الأمّة هي قضية تصفير الفقر.
كذلك لابدّ من العدالة في منح الفرص وفي القدرة الشرائية أي الدخل الفردي، مثل هذه السياسة تؤدّي إلى نتائج كبيرة تصبّ في صالح الدولة والمجتمع، حيث يسود الرخاء وتعمّ الفضيلة، وتنتشر ثقافة العدل والإنصاف بين عموم المكوّنات والشرائح، لكن يبقى المحرّك والدافع الأول لصنع مثل هذا المجتمع هو سلوك الحكومة، وسبل إدارتها لمرافق الدولة، حيث يكون الهدف زوال الفقر، أما إذا حدث العكس فهذا يعني ضعف النظام السياسي وغياب العدالة وانتشار الفقر وهذا سوف ينعكس على حياة الناس، وهو ما يحدث في دول يعيش فيها المسلمون تحت مظلّة الفقر وضعف الحكومة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: (في البلدان التي تشكّل غالبية إسلامية، تعيش الشعوب فقيرة مضطهدة، والسبب واضح تماماً هو غياب النظام السياسي السليم، في وقت تدّعي معظم أنظمة هذه الدول بأنها تنتمي إلى الإسلام، في الوقت الذي تعجّ فيه بلدانها بالفقر والفقراء وهو ما يتناقض مع الإسلام).
إنّ الحلّ في مكافحة الفقر الذي ينتشر بين فقراء المسلمين أو في بلدانهم هو إنشاء ضوابط تحميهم من الفقر، وهناك التكافل والتعاون المتبادل، وتكريس سياسة الضمان الاجتماعي، حيث يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي على أهمية هذه السياسة فيقول سماحته: (في البلد الإسلامي في وقت حكم الإسلام الصحيح، يلزم أن لا يوجد حتى فقير واحد، فالضمان الاجتماعي في الإسلام يحتّم على الحاكم الإسلامي أن يزيل الفقر نهائياً).
لا وجود لفقير في حكومة عليّ صلوات الله عليه
ويقدّم المرجع الشيرازي أمثلة من تاريخنا المشرق ومن الكيفية التي تعاملت بها الحكومة الإسلامية في عهد الإمام عليّ صلوات الله عليه بمكافحة الفقر، فرغم سعة الدولة وكثافة السكّان إلاّ أن فقيراً واحداً لم يكن موجوداً في هذه الدولة الكبيرة، حيث يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي قائلاً: (كان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام رئيس أكبر حكومة إسلامية لا نظير لها اليوم سواء من حيث القوّة أو العدد، لأن الامام كان يحكم زهاء خمسين دولة من دول عالم اليوم، وليس في دولته من فقير).
هذا الأمر يدلّل على أن صغير أو كبر الدولة وسكانها لا يمكن أن يكون السبب الأول في فقرها أو غناها، فالهند تجاوز سكّانها المليار وربع نسمة، وكان ينهشها الفقر حتى وقت قريب، لكنها بالسياسة الرصينة والعلمية والعدالة، استطاعت أن تضاعف من مواردها وتقضي على نسبة عالية من الفقر، فالخلل ليس في كبر المجتمع إنما في طريقة إدارته، وفي طبيعة الحكم، هذا يعني أن الحاكم ينبغي أن يعمل أولاً بالقضاء على الفقر، وعليه أن يجد البدائل المطلوبة ويستخدم الأساليب العلمية لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، خاصة أن الترابط بين ما يحدث في الدنيا والآخرة يرتبط بنجاح سياسة الدولة اقتصادياً واجتماعياً.
كما يؤكّد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: إنّ (سعادة الدنيا والآخرة رهينة مثلث، يشكّل طرفاه الاقتصاد السليم، والسياسة العادلة، والطرف الثالث الفضيلة).
وهكذا لا يمكن أن يتم القضاء على الظلم الاجتماعي، ما لم يتحرّك الحكّام بجدّية لبناء الإنسان نفسه، والقضاء على الفقر أولاً، فليس هناك تطوّر ولا إبداع في ظلّ أجواء الفقر المدقع، وطالما بقي الإنسان يعاني من الشحّة والعوز ويفتقد إلى الحاجات المادية الأساسية فإنّه يبقى ممسوخاً وذا شخصية ضعيفة، بالتالي يكون وبالاً على نفسه وعلى المجتمع، وهذا ما يساعد على تنمية الفقر وليس القضاء عليه، ويبقى السبب هو فشل الحاكم في التخطيط وفي إرادة التنفيذ الجيّد لمساعدة الشعب على تجاوز الخلل الاقتصادي.
وعندما يفهم الحاكم وتعي حكومته، أن حجر الزاوية يكمن في معالجة أزمة الفقر، فإنّ جميع المجالات الأخرى سوف تكون طوع يده، وسوف يكون قادراً هو وحكومته على النجاح في مكافحة المشاكل الأخرى، وتسريع التنمية، ومضاعفة الموارد، ولكن يحتاج الأمر إلى التخطيط العلمي، بعيداً عن العشوائية وضمور العدالة.