سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الإمام الحسين صلوات الله عليه في وصيّته: (أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه)(1).
سيرة القناعات
إنّ من سيرة رسول الله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما اللتين أعلن الإمام الحسين صلوات الله عليه أنّه يريد أن يحييهما، سيرة القناعات، لا الفرض. فقد بنيت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله على القناعات، ولا على الفرض، في كل أدوار حياته، حتى في أيّام حكومته خلال ما يقارب عشر سنوات في المدينة المنوّرة، وحتى في أشدّ الأمور حساسية وهي الحروب.
لقدّ تعرّض رسول الله صلى الله عليه وآله لعشرات الحروب التي فرضت عليه، خلال قرابة عشر سنوات، بعد الهجرة المقدّسة وإلى الاستشهاد، ولكن كان في كلّها لم يفرض على أي شخص فرضاً، في أي مورد، بل كان يعظ وينصح ويأمر وينهى. فلم يفرض على أحد شيئاً حتى اولئك الذين كانوا ينهزمون عن الامتثال لرسول الله صلى الله عليه وآله في التعبئة للحروب الدفاعية. فلم ينقل عنه صلى الله عليه وآله أنّه فرض على أحد منهم الحضور للحرب. ولم يك في سيرة رسول الله ولا في سيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما شيء اسمه الجندية الإجبارية. والنبي الكريم صلى الله عليه وآله هو الذي أمر القرآن الكريم البشر كلّهم باتّباعه، حيث يقول عزّ وجلّ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(2) ويعني اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله واعملوا بقوله واتّخذوا من سيرته منهجاً في كل أموركم. فلم يك ما يسمّى بالإجبار على الجندية، ولا إجبار على تعلّم السلاح. وهكذا كان الأمر في أيّام حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
لا جندية إجبارية بالإسلام
إذا نجد اليوم في بعض البلاد الإسلامية وفي بعض البلاد غير الإسلامية، عدم وجود جندية إجبارية فهذا من رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. وهذا الأمر غير مسبوق في الحكومات قبل الإسلام، فقد كانت تفرض الجندية ويجبرون عليها. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله، لم يفرض على أحد الجندية ولا على حمل السلاح ولا على الحضور في ساحات الحرب، في أكثر مدّة حياته الشريفة في المدينة المنوّرة التي كان خلالها معرّضاً لفرض الحروب عليه وبالعشرات. وكذلك لم يعامل رسول الله صلى الله عليه وآله بالعقوبة أي واحد من الذين كانوا يحضرون الحرب بنصائح رسول الله صلى الله عليه وآله وبتعبئته وبأخلاقه، ولكن كانوا ينهزمون في وسط الحرب وعند اشتعال نارها وفي حماوتها وكانوا يفرّون منها، رغم أنّ القرآن الكريم قد أكّد على أنّ الفرار من الزحف هو من الكبائر ومن غلاظ المحرّمات بقوله تعالى: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(3)، كما حصل في معركتي اُحد وحنين. وهذه هي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله التي كانت هكذا في طول حياته الشريفة. وهذه هي السيرة التي أراد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يحييها في مقابل يزيد بن معاوية وقمعه وظلمه وفرضه لكل شيء على الأمّة، حتى المحرّمات.
في حرب اُحد
في حرب اُحد كان رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون أسفل الجبل، وكان المشركون الذين فرضوا الحرب أمام المسلمين. فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله على الجبل مجموعة من المسلمين حتى لا يلتفّ المشركون من خلف الجبل ويحاصروا المسلمين من الجوانب المختلفة. وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله لا تنزلوا عن الجبل حتى آذن لكم، سواء خسرنا أو ربحنا، وسواء انتصرنا أو غلبنا. ولكن لما انتصر المسملون وانهزم المشركون، نزل الذين كانوا على الجبل لجمع الغنائم مع المسلمين، فرأى بعض المشركون الذين كانوا قد انهزموا وفرّوا، نزول تلك المجموعة من المسلمين عن الجبل، فالتفوا على المسلمين وهم مشغولون بجمع الغنائم وبلا سلاح، فوقعت مقتلة عظيمة في المسلمين نتيجة مخالفة الأصحاب لرسول الله صلى الله عليه وآله ومخالفتهم لأمره بالثبات على الجبل. ومع ذلك لم يعاقب صلى الله عليه وآله أحداً منهم، مع أنّه في قانون الحروب، عندما يخالف المحارب وسط الحرب، يُرمى وعلى الفور وبلا محاكمة، وهذا ما يعمل به إلى اليوم في العالم. ولكن الإسلام كلّه إنسانية، وكلّه قناعات، ويريد القرآن الحكيم أن يختبر العباد حتى (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)(4). أي المهم أن تكون بيّنة في الإسلام، لا فرض.
وفي حنين
كذلك في حرب حنين، عندما انهزم قرابة كل المسلمون الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وحسب الروايات الشريفة وفي التواريخ، لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أقل من عشرة أشخاص، كان أحدهم الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ومع ذلك وبعد تمام الحرب ونصر الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وآله، قسّم النبي صلى الله عليه وآله الغنائم على الجميع، حتى على الذين فرّوا. فبعض الأصحاب من المنافقين فرّ ثلاثة أيّام، أي كان يفرّ ويركض ثلاثة أيّام خوفاً من ملاحقة بعض المشركين لهم حال انكسار المسلمين. وهذا هو الإسلام الذي أراد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يحييه.
إمام القناعة
هكذا أبوه أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فلا يجد الباحث والمدقّق في كل تاريخ حكومة الإمام علي صلوات الله عليه مورداً واحداً بأنّه قد فرض شيئاً على أحد. فالإمام علي صلوات الله عليه كلّه قناعات، وكلّه مواعظ، وكلّه إرشاد. بل إنّ الإمام صلوات الله عليه كان قد نهى عن شيء، ولكن قام جماعة وحثالة من المنافقين بالمظاهرات ضدّ نهي الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فسحب الإمام كلامه وسحب نهيه، ولم يعاقب أحداً منهم. فأين يوجد مثل هذا التعامل في تاريخ العالم وتاريخ الدنيا؟ وهذا هو التاريخ وهذا هو التعامل الذي أراد الإمام الحسين صلوات الله عليه أن يحييهما، ويحيي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهي سيرة القناعات التي لا توجد إلاّ في قانون السماء فقط، ولا توجد إلاّ في قانون الوحي فقط، ولا توجد إلاّ في قانون العصمة فقط، ولا توجد إلاّ في القانون المتّخذ من الله سبحانه وتعالى ومن القرآن الحكيم فقط. أي سياسة القناعات وسيرة القناعات.
الإقناع الحسيني
الشيء نفسه عمل به الإمام الحسين صلوات الله عليه مع من جاؤوا معه إلى كربلاء المقدّسة. فقد دخل الإمام الحسين صلوات الله عليه كربلاء المقدّسة، ومعه ألف وخمسمئة شخص، من الذين خرجوا معه من مكّة المكرّمة إلى كربلاء، والذين التحقوا بركب الإمام في الطريق. ولكن في ليلة عاشوراء ترك الإمام الحسين صلوات الله عليه وسط الأعداء أكثر من تسعين بالمئة منهم وذهبوا. ولم يأمر الإمام الحسين صلوات الله عليه أحداً منهم على البقاء، ولم يلزم أحداً على البقاء. بل كان صلوات الله عليه يدعو إلى نصرته، فدعا عبيد الله بن الحر الجعفي الذي لم يقبل دعوة الإمام، ودعا زهير بن القين وقبل الدعوة. وهكذا دعا آخرين، وكان صلوات الله عليه ينصح ولم يفرض رأيه وهو إمام معصوم ومنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى بالنص الإلهي الخاص. ولكن بما أنّ مسألة الفرض غير موجودة في تاريخ المعصومين صلوات الله عليهم، لذا تركهم الإمام الحسين صلوات الله عليه وأذن لهم بالذهاب. بلى، قال لبعضهم ابتعد حتى لا تسمع صوت غربتي، فإنّ من سمع صوت غربتي ولم ينصرني أكبّه الله في نار جهنّم، كما قال صلوات الله عليه: (فإنّه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يكبّه على منخريه في النار)(5).
بلى، كان الإمام الحسين صلوات الله عليه، ينصح ويعظ ولا يفرض. وهذا الذي أراد صلوات الله عليه أن يحييه، أي هذه السيرة، سيرة القناعات، وسيرة الوعظ وسيرة الإرشاد وسيرة النصيحة، حتى يقتنع كل إنسان فيأتي ويأخذ دوره ويواصل.
ابحثوا وقارنوا
إذن، أليست هذه السيرة جديرة بأن تعرض على العالم في هذا اليوم؟ وهل تجد في عالم اليوم في أية نقطة منه، مثل سيرة النبي الكريم والإمام أمير المؤمنين والإمام الحسين صلوات الله عليهم وآلهم، على جميع الأصعدة. فبلاد الغرب التي تتبجّح بما عندها من الحريّات، هل هي بهذا المستوى؟ والجواب: أبداً وكلا. فانظروا إلى قوانين الغرب أيّها المثقّفون وادرسوا سيرة رسول الله وسيرة أمير المؤمنين وسيرة الإمام الحسين صلوات الله عليهم وآلهم، وهي سيرة القناعات، وانشروها في العالم حتى يتمّ إنقاذ بلاد الإسلام وبلاد غير الإسلام من الويلات التي تعيشها اليوم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّق الجميع لذلك. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــ
(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء ٤٤، الصفحة ٣٢٩.
(2)سورة الأحزاب: الآية 21.
(3)سورة الأنفال: الآية 16.
(4)السورة نفسها: الآية42.
(5) العوالم ـ الإمام الحسين عليه السلام للشيخ عبد الله البحراني: الصفحة ٣١٤.