في ليالي شهر رمضان المبارک يتوافد العلماء والفضلاء وطلاب الحوزة العلمية ومختلف الشخصيات وعامة المؤمنين علي بيت المرجع الديني سماحة آية الله العظمي السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في مدينة قم المقدسة.
وخلال لقائهم بسماحة السيد يدور الحديث حول المباحث العلمية والمسائل الفقهية والتاريخية والثقافية، إضافة إلي ما يتفضل به سماحته من وصايا و توجيهات.
في جلسة هذه الليلة، وهي الليلة الرابعة من شهر رمضان المبارک، أخذ موضوع الإسراف حيّزاً کبيراً من مباحثات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله مع العلماء والفضلاء. فقد سأل أحد الفضلاء من سماحته وقال: أوصت امرأة أرحامها أن يطلوا بدنها بالحناء بعد موتها، فهل يجب عليهم الامتثال لوصيّتها، أم يترکوا عمل ذلک من باب عدم الإسراف؟
أجاب سماحة المرجع الشيرازي: جاء في الرواية الشريفة: «تنوّقوا في الأکفان فإنکم تبعثون بها»، فإن قلنا بأن ما ذکرته الرواية هو: «علّة» وليس «الحکمة» فإن لذلک عموم، وبالنتيجة فإن الشيخ إذا طلا محاسنه ومات فإنه سيحشر علي ما کان عليه أي بصورة جميلة. وهذا الأمر هو غير الإسراف، لأن الإسراف مسألة عرفية، مثل أن يضعوا سجاداً فاخراً وثميناً في قبر أحد الأغنياء عند دفنه، فهذا نوع من التبذير وهو أسوء من الإسراف.
وسأل آخر: ماهي حدود الإسراف والتبذير؟
أجاب المرجع الشيرازي دام ظله: إن العرف هو الذي يحدّد ذلک، أي إذا خرجت عن حدود الاعتدال. نعم، هناک فرق بين التبذير والإسراف، فالتبذير يعني الإنفاق فيما لا ينبغي، والإسراف هو الإنفاق زيادة علي ما ينبغي.
إذن فالتبذير يعني: الصرف في غير محلّه مثل طهي الدجاجة وتقديمها للحيوانات. وأما الإسراف فيعني الصرف أکثر من اللازم والضروري، کأن يأکل الإنسان الدجاجة ولا يعطي منها للحيوانات، ويکثر من أکلها.
وأضاف سماحته: في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنه قال: أسبغ الوضوء ولا تسرف. ويعني: استعمل الماء عند الوضوء، وأمرره علي أعضاء بدنک لتترطّب، وحاول أن يستوعب الماء الأعضاء بالکامل وأمرره عليها جيّداً، ولکن لا تسرف. فالذي يريد أن يغتسل يجب عليه أن لا يبقي تحت الدوش لمدة نصف ساعة بحجّة أن يستوعب الماء جسمه کلّه.
وذکرت الروايات الشريفة أيضاً: «إنّ من الإسراف رمي النوي وصب فضل الماء». ومع أن هذه الرواية لا سند لها ولا يستنتج منها حکماً إلزامياً، ولکن أصل البحث هو: هل الإسراف بالإطلاق حرام أم لا؟
هناک رواية مع کونها مرسلة لکنها تبعث علي الخشية، وهي: «الوضوء بمد ـ أي 750 غراماً ـ والغسل بصاع ـ أي 3 کغم ـ وسيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلک، فاولئک علي خلاف سنّتي، والآخذ بسنّتي معي في حظيرة القدس». فلعله لا نجد من يغتسل بثلاثة لترات من الماء ويحاول أن يستوعب بدنه بهذا المقدار من الماء إلاّ القليل جدّاً.
هنا أشکل أحد الفضلاء وقال: إن کان العرف هو ملاک تشخيص الإسراف، فاليوم صار من العرف استعمال کمية کبيرة من الماء للاستحمام والغسل العادي، ولذا لا أعتقد بوجود إشکال علي ذلک، ولعل الرواية التي أشرتم إليها آنفاً هي لذلک الزمان الذي کان فيه استعمال القليل من الماء متعارفاً.
فقال سماحته في جوابه علي هذا الإشکال: إذا لم يعيّن الشارع المقدّس الموضوع، ولا يوجد دليل شرعي خاص علي التوسيع والتضييق، فالملاک هو العرف. ولکن تلک الرواية التي ذکرتها تبعث علي الخوف والرهبة، إذ انها عيّنت الموضوع، والقضايا هي حقيقية دائماً، وأما إذا کانت خارجية فإنها تحتاج إلي قرينة، والقرينة: سيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلک» مخالفة لذلک.
وسأل أحد الفضلاء: في بعض حفلات الضيافة وبالعزائم تکون کميات الطعام المطبوخ والمعدّ للضيوف أکثر من عدد المدعووين، وبعد انتهاء العزيمة تلقي الکميات المتبقية من الطعام في المهملات، وهذا العمل بات اليوم عند البعض أمر طبيعي جدّاً، فيمکن أن نقول بأن هذا العمل يخلو من الإشکال؟
أجاب سماحته: إن إعداد طعام أکثر من الحاجة لا يعدّ إسرافاً، بل الإسراف هو رمي الطعام في المهملات. فإن دعي شخص عشرة أشخاص وأعدّ طعام ما يکفي مائة شخص، فليس هذا من الإسراف، إنما الإسراف هو رمي الطعام في المهملات.
لذلک في البلاد المتعارف فيها إعداد الطعام الکثير، کان يأتي شخص إلي الحسينية ويجمع الطعام الکثير المتبقّي ويحمله إلي المحتاجين والفقراء في مناطق اُخري، وهذا ليس من الإسراف. وکان يقوم بعضهم برمي المتبقي من الطعام في البحر ظنّاً منهم أن هذا العمل ليس إسرافاً، ولکنه کان تبذيراً. ولعل عدم تشخيص بعض الناس للإسراف والتبذيرهو عدم معرفتهم معني الإسراف والتبذير، أو انهم غير ملتزمين بذلک، کعدم التزام الناس بالکثير من المسائل والأمور، ومنها إجبار الزوج زوجته علي إعداد الطعام وطهيه، حيث يتصوّر الکثير من الرجال أن ذلک من حق الزوج علي الزوجة.
وانبري أحد الفضلاء وسأل: إن کان العرف هو الملاک في تشخيص الإسراف، فيمکن تغيير موضوع الإسراف، فهل يخلو هذا التغيير من الإشکال؟
أجاب المرجع الشيرازي: کلا، لأن کل شخص يعمل بالعرف السائد في بلده ومدينته، کمسألة الربا في المعاملة في المکيل والموزون وليس في المعدود. ومن العلوم أن العرف تجاه المکيل والموزون والمعدود يختلف من بلد لآخر، فمثلاً في العراق بالسابق کان البرتقال وبيض الدجاج من المعدود، ولکن کان في إيران من الموزون، ولکلا هاتين الحالتين حکم خاصّ، ولا إشکال في المسألة.
وسأل أحد الفضلاء وقال: ما معني کلمة «منزل» المذکورة في الروايات؟
أجاب سماحته: إن معني «منزل» هو: المکان والمدينة التي ينزل فيها المسافر. ولذا هنا رواية في باب التضليل تقول ما مضمونه أنه إذا وصل المحرم إلي منزل فيمکنه أن يتضلّل. واستناداً إلي هذا الدليل فإن المحرم إذا دخل مکّة لا إشکال عليه التضليل وإن کان منزله بعيداً عن أول المدينة.
وسأل آخر أيضاً وقال: شخص نذر أن يصوم الآخر من شهر شعبان، ولم يدري هل الشهر 29 أو 30 يوماً، فهل يجوز له أن لا يصوم في يوم 29 وأن يجري الاستصحاب، أو لا لأنه يوجد علم إجمالي بالمسألة فلا يجري الاستصحاب، مضافاً إلي ذلک ان الاستصحاب هنا هو أصل مثبت، أي انه يستصحب بأن يوم غد أي (29) ليس الآخر من شهر شعبان بل آخره هو يوم (30)؟
أجاب المرجع الشيرازي وقال: قيل بأنه سئل من المرحوم الحاج أغا حسين القمّي رحمه الله: هل يوجد علم إجمالي في کذا مسألة؟ فقال في الجواب علي ذلک: اصبروا قليلاً لاُفکّر وأري هل في المسألة علم إجمالي أو لا.
وأضاف سماحته قائلاً: إن العلم الإجمالي في هذه المسألة منجّز التکليف، وعليه أن يصوم في اليوم (29)، فإذا صار يوم (29) آخر الشهر فبها، وإلاّ عليه أن يصوم يوم (30) أيضاً.
وسأل أحد الحضور وقال: هناک طريقان للوصول إلي مدينة الفلانية، أحدهما مسافته مساوية للمسافة الشرعية أو أکثر منها، والآخر مسافته أقلّ من المسافة الشرعية، فما هو حکم المسافر؟
أجاب سماحته بقوله: هذه المسألة وردت في العروة، والملاک فيها هو الطريق الذي يسلکه المسافر.
وسأل آخر من الفضلاء: استناداً إلي الآية الکريمة : «إن تجتنبوا کبائر ماتنهون عنه نکفّر عنکم سيئاتکم» إذا ابتعد الإنسان عن الذنوب الکبيرة وأحياناً ارتکب الصغائر بلا قصد وإصرار، فهل يعدّ هکذا إنسان عادلاً؟
قال المرجع الشيرازي في جواب ذلک: جاء في العروة بحث مستفيض حول العدالة وهو: «أن يکون ساتراً لجميع عيوبه». ولا يخفي ان الصغائر تعدّ من العيوب، ولا عدالة في وجود العيوب. فبالنسبة إلي الوعد بالمغفرة الذي ذکرته الآية الکريمة فهذا يرتبط بالآخرة، ولا ترفع أصل العيوب. ويوجد دليل علي أنه بالاستغفار يمحي الله تعالي تلک الذنوب فترجع العدالة للشخص، وهو: «من استغفر لا ذنب عليه»، ولکن إذا ارتکب الشخص الصغائر ولم يستغفر ولکنه لم يصرّ عليها حتي لا تعدّ من الکبائر، فهل يمکن أن نطلق عليه التعبير الوارد في العروة وهو: «ساتر لجميع عيوبه»؟ في حين ان العيوب تشمل الذنوب الصغار أيضاً، والشمول هنا غير ثابت.
وأشکل السائل نفسه وقال: إن الله تعالي يقول في القرآن الکريم: «نکفّر عنکم سيّئاتکم»؟
فأجاب المرجع الشيرازي وقال: إن الله وعد بالتکفير عن الصغائر، ولکن متي؟ حيث انه تعالي لم يعيّن ذلک. کما إن التکفير عن الذنوب الصغار بتصريح الآية الکريمة يجب أن يصاحبها المراعاة لأمور اُخري. فمثلاً: إذا ارتکب ذنباً صغيراً في شهر رمضان المبارک، ولم يرتکب في شهر شوال من الکبائر شيئاً فإن الله تعالي سيغفر له، لأنه وعد بقوله: «إن تجتنبوا» ولا إشکال من أن يشمل هذا المعني عمر الإنسان کله.
بالطبع هذا القول هو مبنا المشهور، ففي المسألة خلاف وهو: هل تتحقق العدالة بمجرد ترک الکبائر؟ أم ان العدالة هي ملکة، وأن ترک الکبائر هي طريقة لها، أي لملکة العدالة؟
ثم سأل أحد الحاضرين وقال: إذا کان إمام الجماعة عالماً بأن الميت المسجّي أمامه کان من أهل المعاصي، فکيف يقول بحقّه: «اللهم إنّا لا نعلم منه إلاّ خيراً»؟
قال سماحته: المقصود من «خيراً» في تلک العبارة هي ولاية أهل البيت صلوات الله عليهم ومحبّتهم التي کانت متوفرة عند الميت. وعليه فإن معني العبارة المذکورة هو: إننا نعلم بأن هذا الشخص من المسلمين ومن المحبّين لأهل البيت صلوات الله عليهم، وليس مرتدّ عن الإسلام وعن الولاية.
وسأل أحد الفضلاء: ما حکم من قام بثقب لسان شخص ما؟ حيث قيل بأن حکم مثل هذا الشخص هو أن يطلبوا من الشخص المجني عليه بتلفظ الحروف الأبجدية بالتسلسل فإذا لم يتمکن من النطق بأي حرف يجب علي الجاني أن يعطي الدية بمقدار عدد تسلسل الحرف. فهل هذا صحيح؟
أجاب سماحته بقوله: إذا لم يکن عندنا دليل خاص علي مقدار الدية فهنا تجري قاعدة الحکومة، حيث إن الحکم الذي ذکرتموه يختص بمن يقوم بإرعاب وتخويف شخص ما مما يؤدّي إلي إصابة الشخص بالتلکؤ. وأما ثقب اللسان فضرره أکبر وأکثر من التلکؤ، وفيه حکم شديد.